وكما كانت مشاغل الحرب العراقية الإيرانية تُغطّي على ما كان يحصل في داخل الساحة الإيرانية بتعقيداتها وطلاسمها؛ فإن إرهاصات الملف النووي ونتائجه المتلاحقة قد أعاق رؤية الصورة الحزبية، وجمّد الكثير مما يعتمل في الساحة الداخلية الإيرانية إلى الحدّ الذي لم تعد فيه مُسمّيات التيارات والأحزاب تفرض نفسها على بوصلة الحوادث ومدى انعكاسها وتأثيرها على السياسات الداخلية والخارجية للحكومة. بطبيعة الحال فإن صدمة فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد قد غيّرت الكثير من حسابات القوى السياسية الناشطة، بل إنه قد حتّم عليها إعادة تموضعها السياسي والولائي في الداخل... وأيضا جعل من قطار الفرز داخل أنوية الأحزاب نفسها يتعاظم بشكل أفقي غير مسبوق في مجتمع أصبح فيه التعاطي مع الشأن العام ومفاعيل السياسة أمرا اعتياديا وبشكل يومي. ولأن الجولة اليوم هي محافظة خالصة منذ فوز هذا التيار في الانتخابات البلدية في مارس/آذار من العام 2003 ثم في الانتخابات التشريعية في فبراير/شباط من العام 2004 ثم الرئاسية في أغسطس/آب من العام 2005 وأخيرا الانتخابات البلدية في ديسمبر/كانون الأول الماضي بشكل متلاحق، فإن تشريحه يصبح لزاما في ظل توسّعه وانشطاره إلى اليمين واليسار أكثر من مرة، آخرها ما أعلنه سعيد أبو طالب وهو عتاة المحافظين انشقاقه عن الكُتلة الأم في البرلمان ليُشكل تكتلا جديدا باسم «الأصولويون المبدعون».

ولأن موعد إجراء انتخابات الدورة الثامنة للبرلمان الإيراني لم يبق على إجرائها سوى عشرة أشهر فإن الأمر يصبح مهما بالنسبة لشيوخ المحافظين من أجل لملمة أية انشقاقات في صفوف التيار قد تذهب بريحه أمام الجبهات الأخرى التي التأم بعضها ببعض بعد هزيمة الرئيس هاشمي رفسنجاني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، خصوصا وأنه قد اكتوى سابقا بمثل هذه الإشكالات بعد انشقاق التعميريين عن مجلس تنسيق قوى الثورة . فقبل أسبوع أعلن أحمد توكلي وهو أحد الأعضاء البارزين في الأغلبية البرلمانية المحافظة بأن «الأصوليين (تعبير داخلي عن اليمين المحافظ) بدأوا مشاوراتهم بشأن انتخابات الدورة الثامنة للمجلس، وأن كل تيار سياسي عقلاني لابد أن تكون لديه تقديراته عن حضوره السياسي، ويحدوني الأمل أن يصل الأصوليون إلى الإجماع في انتخابات الدورة الثامنة للمجلس ويخوضونها في صف واحد».

وفي تصريح موازٍ أعلن حسين فدائي أمين عام جمعية مضحي الثورة الإسلامية والنائب عن دائرة طهران وهو أيضا من نفس التيار عن وجود مساع يبذلها فريق من المحافظين لإيجاد التنسيق بين المجلس الثامن وحكومة أحمدي نجاد، وأن «بإمكان المجلس والحكومة إنجاز المهمات بالتنسيق والتعاطي الايجابي إلى جانب ممارسة النقد ورعاية كل منهما لواجباته « وبالعودة إلى تصريحات هذين النائبين يتضح مدى الهاجس الذي يُدركه المحافظون لطبيعة الأزمة التنظيمية لهم فهو يُعبّر عن عدة أمور وبشكل مزدوج، أهمها أن كتلة الأغلبية تريد إعطاء تطمينات للقوى اليمينية الراديكالية في المجلس والتي يُمثلها سعيد أبو طالب وعدد مهم من النواب بأن برنامج التيار القادم لن يكون متساهلا إلى الحدّ الذي حدث أخيرا فيما يتعلق بسحب الرئيس لمشروع الموازنة الستة والثمانين وإجراء التعديلات عليها رغم معارضة مجموعة كبيرة من النواب داخل الأغلبية، لكن وفي نفس الوقت مع إيجاد أفضل قنوات التعاون والتنسيق بين الحكومة والمجلس على اعتبار أن شيوخ المحافظين لا يُريدون أن يفقدوا القوى الفاعلة في ذات التيار من التعميريين الذي ينتمي إليهم الرئيس وعدد كبير من أعضاء المجالس المحلية وحتى في داخل تكتل الأغلبية، وفي كافة مفاصل الدولة، والذين هم أيضا محل ثقة مطلقة من جانب قوى البسيج وتشكيلات حزب الله .

الإشكال الأكبر الذي قد يتورط فيه المحافظون هو الوضعية الحقيقية لأحد أهم رموز اليمين التقليدي والصناعي وهو الشيخ هاشمي رفسنجاني، فالأخير قد لقي دعما غير محدود من المجاميع المحافظة خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلاّ أنه لم يفز، وبالتالي فإن بقاء الرجل في جبهة المحافظين سيُحتّم على الآباء الروحيين للتيار أن يُعبّؤوا مناصريهم لدعمه أو دعم القائمة التي ستمثله، وبالتالي فإن الأمور ولغاية اليوم غير منضبطة ومأمونة بالشكل الذي يطمح فيه اليمين المحافظ .

وبالتالي فإن التسويات الثنائية هي وحدها الكفيلة القادرة على إعادة اللحمة للتيار، وهي تسويات يجب أن تتم ما بين جمعية علماء الدين المجاهدين (روحانيت مبارز) وجماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم المقدسة من جهة وبين تكتل روّاد إعمار إيران الإسلامية برئاسة مهدي جمران وتكتل الرائحة الزكية برئاسة بروين أحمد نجاد (شقيقة الرئيس) ومن خلفهم آية الله محمد تقي مصباح اليزدي من جهة أخرى، والتسوية الأخرى هي بإعادة إنتاج القوى التي خرجت من عباءة التيارين الرئيسين بعد فوز أحمدي نجاد وأهمها حزب الثقة الوطنية التي أسّسه رئيس البرلمان السابق الشيخ مهدي كروبي لتهميش القوى المتطرفة في تيار الثاني من خرداد، رغم أن الأنباء الواردة من داخل الغرف المغلقة تفيد بأن محمد رضا تابش سكرتير كتلة الأقلية الإصلاحية بالمجلس سيلتقي كلا من رفسنجاني وخاتمي وكروبي خلال الأيام القادمة، وهي مساعي إن تمّت بلورتها بشكل جيد من جانب الإصلاحيين فإن ما صرّح به غلام علي دهقان المتحدث باسم حزب الاعتدال والتوسعة بأن المجلس الثامن سيضم تركيبة متقاربة من الإصلاحيين المعتدلين والأصوليين الموضوعيين، فيما سيفقد الراديكاليون دورهم كثيرا، يُصبح سيناريو ذو حظوظ جيدة، كما سيصعب على التيار المحافظ إقامة موائمات تقيه من هزيمة محتملة ستُزحزحه عن المراكز التشريعية التي حافظ عليه طيلة أربع سنوات خلت.