المجتمع هو البحر الذي تتحرك فيه الأفكار والرؤى والتصورات، وهي تحمل أحيانا أسماء القائمين عليها كالفنانين والرياضيين والمثقفين والتجار وكذلك المتدينين، وتارة تختفي الأسماء لسبب أو لآخر.
ولأن مجتمعنا متدين بالفطرة، طاهر بالوجدان، ملتصق أشد الالتصاق بالدين والقيم، كان وثيق الصلة والقرب من الجهات الدينية، ما ساعد على نشوء علاقة تبادلية بينه وبينها، فهي ترشده، وتوجهه، وتعلمه خير الدنيا والآخرة، وهو من جهة أخرى يمدها بالمكانة الاجتماعية، والإمكانات المادية، والطاعة، والتمكين من أداء مهماتها في التبليغ والإرشاد والقيادة.
ولأن هذه العلاقة عالية المكانة والاحترام في نفوس الناس، كانت نظرة المجتمع لتصرفات المتدينين وقضاياهم - حتى الشخصية منها - محل عناية ونظر وتتبع، فهي دائما وأبدا تحت المجهر، وتحت الضوء المركّز، وفي الكثير من الأحيان يقبل المجتمع من بعضه ما لا يقبله من المتدينين، ويتجاوز بيسر عن بعضه، لكنه يعسّر بعض الشيء في تجاوزه عن المتدينين.
ومن الموضوعات التي أصبحت محل نظر وتأمل عند الناس مسألة النزاعات والصراعات الاجتماعية بين المتدينين، فهو ليس نزاعا بين أناس بسطاء أو عاديين، بل هو في نفوس الناس أكبر من ذلك، من هنا ينقدح السؤال: كيف ينظر المجتمع الى مسألة النزاع والتصارع بين الفئات الدينية؟ هل يمكن حدوث ذلك؟ وبأي ميزان يزن الأمر؟ وعلى أي محمل يحمله؟ وبأي كيف يتعاطى معه؟
حتى نصل إلى نتيجة قريبة من الواقع من دون تعميم أو أحكام مطلقة، لابد من التعاطي الواقعي مع نظرة المجتمع إلى المتدينين، فالمجتمع فئات متعددة، ومشارب مختلفة، وهذا ينعكس تلقائيا على نظرتهم لمسألة النزاع بين المتدينين، أو الذين يحاولون أن يسلكوا سلوكا دينيا متميزا عن بقية أفراد المجتمع، وملاحظة هذا التفاوت في النظرة للمتدينين تقربنا من الإجابة عن سؤالنا المحوري المفترض، وهو: هل يتصارع المتدينون في نظر الناس؟ وهل يمكن للمجتمع أن يحتمل إمكان حدوث التصارع بين المؤمنين؟
ينظر المجتمع للمتدينين بإحدى نظرات ثلاث، وبحسب وعي المجتمع وإدراكه، تتقدم هذه النظرة دون تلك في النسبة المئوية للتعاطي مع المتدينين على وفقها.
الأولى: النظرة المثالية:
وهي التي تفترض أو تنظر إلى المتدين كملاك معصوم، لا يمكن أن يشط به القول، ولا أن تنفعل منه النفس، ولا أن يخطئ عنده التصور. إنه ملاك بين الآدميين من أبناء جنسه.
هذه النظرة لا تعطي للمتدين عصمة نظرية، لكنها عمل تجعله فوق الخطأ والنزاع والتصارع.
هكذا يحلو لبعض أفراد المجتمع أن ينظروا للمتدين، متجاوزين غرائزه الفطرية، وأحاسيسه النفسية، وما يعتريه من عوارض وهواجس، كأي نفس بشرية تؤثر فيها الظروف، ويدغدغها الشيطان الرجيم الذي يركز جهده على المتدينين «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُم الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ» (المائدة: 91).
هذه النظرة لم تأت من فراغ، بل إن مجموعة من التداعيات الذهنية والمعطيات الخارجية التي فقدت التحليل السليم تقف وراءها، ولعل أهم تلك المعطيات:
(1) ما يسمعه المجتمع ويقرأه سواء من كتاب الله العزيز، أو في السنة النبوية الشريفة وأحاديث العترة الطاهرة، أو من الوعّاظ والمبلغين، عن المؤمن المتدين وموقفه من الصفات السيئة كالحسد والغيبة والنميمة والفتنة، وكذلك موقفه من السلوكيات الخاطئة كشرب الخمر وظلم الناس وأخذ المال بالباطل. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ» (الحجرات: 12). ويقول الإمام الصادق (ع): «إن من عظّم دينه عظّم إخوانه، ومن استخف بدينه استخف بإخوانه».
وحين حاول ابن المجتمع أن يطابق ويقارب لفظ المؤمن كمصطلح ومفهوم يبحث له عن مصداق (مثال) على أرض الواقع، لم يجد بين يديه إلا مجاميع المتدينين، فهم الأجدر بتطبيق القيم والمبادئ والأخلاقيات التي جاءت بها تعاليم الدين، وهنا يبدأ الربط والخلط بين القيم والمبادئ كمجردات ومقاييس يقاس بها صلاح الأشخاص من فسادهم وبين المتدين كبشر وإنسان، بحيث يعني المتدين لهؤلاء نفس ما تعنيه المبادئ والقيم والمثل، من دون النظر إلى الجانب الآخر من نفسه وشهواته وغرائزه، واشتباهاته الطبيعية والمؤثرات التي تؤثر عليه كبشر.
(2) الأحاديث الوعظية والتوصيات الأخلاقية التي يوجهها المتدينون لإخوانهم وأصدقائهم ومحبيهم، فما أن يجد المتدين فرصة سانحة حتى يبدأ التوجيه والإرشاد والتذكير بأخلاق الدين - وهي صفة حسنة - وما أن يشعر أن مخالفة ارتكبت تجاه الشرع أو تجاه عرف أخلاقي أو اجتماعي حسن، حتى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
ومن خلال التوجيهات الأخلاقية والكلمات القيمية السامية والتعاليم الدينية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تبلورت تلك المكانة العالية لهؤلاء المتدينين في نفوس الناس، وكان طبيعي أن يُقابَل جهدهم التذكيري وإرشادهم المتواصل لمجتمعهم، بهذه المكانة والموقعية العالية في نفوس الناس، وأن ترتفع أرصدتهم ومحبتهم في القلوب.
(3) الأماكن التي يرتادها المتدينون والمجالس التي يجلسونها قد يكون لها الأثر الكبير في تكوّن تلك النظرة المثالية في نفوس العامة تجاههم، فالمتدينون يواظبون على المساجد ولا يتركونها، ويقصدون صلاة الجماعة ويحيونها، كما أنهم يحضرون مجالس العلماء، يسمعون نصائحهم ويتعرضون لنفحاتهم الربانية، ويلتزمون بالمستحبات فلا يتركون صلاة مستحبة، ولا دعاء مستحبا ولا صوما مستحبا إلا وكانوا السابقين.
هذه النشاطات الخيرة تسجل للمتدينين نقاط تفوّق وعلو في نفوس الناس - طبعا المتدينون لا يطلبون من أعمالهم إلا رضا الله سبحانه وتعالى - لكنه أمر طيب أن يعرف الإنسان بالخير والفضيلة.
المشكلة تبدأ حين ينظر المجتمع لهم بعين واحدة، ومن زاوية حادة ترى هذا الجانب وتغفل النفس البشرية بأبعادها وهواجسها ومؤثراتها، فتتمكن النظرة المثالية من أصحاب هذه النفوس.
أما ما هي نتائج هذه النظرة فسأتعرض لها في المقال المقبل بإذن الله.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1683 - الأحد 15 أبريل 2007م الموافق 27 ربيع الاول 1428هـ