دعا الرئيس جورج بوش قيادة الحزب الديمقراطي إلى الاجتماع في «البيت الأبيض» الأربعاء المقبل لمناقشة موضوع العراق والموازنة المطلوبة لتغطية نفقات الحرب. اللقاء بين الطرفين يشكل خطوة مهمة في سياق التنازع الحاصل بين السلطتين الرئاسية والتشريعية. فالكونغرس يملك صلاحياتٍ تؤخر أو تعطل سياسة واشنطن ولكنه لا يستطيع تقويض صلاحيات الرئيس. والرئيس يستطيع استخدام صلاحياته من طريق تجاوز أو تجميد قرارات الكونغرس ولكنه لا يملك تلك القوة المعنوية التي تسمح له بتجاهل السلطة التشريعية.
وبسبب هذه الازدواجية اضطر الرئيس إلى دعوة قيادة الديمقراطي إلى الاجتماع لبحث القضايا الخلافية وخصوصا تلك التي تتصل بالأمن القومي والسياسة الخارجية. لذلك تعتبر القمة الثنائية خطوة مهمة لأنها ستوضح نقاط الاتفاق والاختلاف وسيكون لها تأثيرها المعنوي والمادي على الرأي العام، وأيضا يرجح أن ترسم معالم طريق الاستراتيجية الأميركية في «الشرق الأوسط» في السنتين المقبلتين.
هناك مطالب من الرئيس بوش يريد من الحزب الديمقراطي تمريرها أو تسهيل عبورها من دون عقبات أو شروط. وفي المقابل هناك اعتراضات سياسية وملاحظات فنية من الكونغرس على سياسة بوش يريد الحزب الديمقراطي كسبها لحسابات انتخابية.
بوش يريد أن ينجح في معركة العراق. والنجاح يتطلب الدعم المعنوي والإعلامي والمالي لتغطية الكلفة السياسية والبشرية التي تحتاج إليها خطته الأمنية في العراق. فالرئيس ربط نفسه بتلك الخطة كذلك بات مصير الحزب الجمهوري يعتمد كثيرا على نجاح الخطة. وحتى تنجح لابد من تمرير موازنة العام 2008 التي تقدر بأكثر من 100 مليار دولار.
الحزب الديمقراطي وافق على الموازنة ولكنه اشترط على الرئيس بوش أن يحدد موعدا لبدء الانسحاب من العراق حتى يجيز نفقات الحرب. بوش رفض الشرط واتهم الحزب الديمقراطي بتغليب مصالحه الانتخابية على حياة الجنود وأمن الولايات المتحدة القومي واستراتيجيتها العليا. الديمقراطي رفض الاتهامات مؤكدا أن بوش يريد استخدام ورقة العراق للضغط عليه في المعركة الانتخابية المقبلة.
الاتهامات المتبادلة تؤكد أن المواجهة أصبحت حزبية الطابع. بوش يريد النجاح لخطته الأمنية حتى يستخدم فوزه في العراق لتعديل موازين القوى الانتخابية في الولايات المتحدة. والديمقراطي مصلحته ألا ينجح بوش في معركة العراق لأن فوزه هناك يعني خسارته المعركة الانتخابية.
العراق إذا تحوّل إلى ساحة سياسية بين الطرفين الجمهوري والديمقراطي. والساحة أصبحت تربط مصير كل طرف بالآخر. نجاح بوش يؤدي إلى فشل الديمقراطي. وخسارة بوش تعني تعزيز إمكانات نجاح الديمقراطي. وتحت سقف هذه المعادلة الانتخابية تجري الآن تلك المعركة التي يعتمد فيها كل طرف على الآخر. وهذا الجانب يعطي صورة غريبة عن المشهد. فهل يعقل أن يتنازل الديمقراطي عن شروطه ويسهل أمور بوش ويعطيه الدعم لخطته الأمنية ويساعده على تأمين النجاح له حتى يستخدم فوزه في العراق لتسديد ضربة انتخابية موجعة بعد سنتين؟ وهل من الممكن أن يأخذ بوش من الديمقراطي سلاحه ويجرده من الورقة القوية التي تلعب الآن لمصلحته؟
بوش في أزمة. كذلك الديمقراطي. فالأول يريد من الثاني مساعدته للقضاء عليه لاحقا. والثاني يتخوف من نجاح بوش ويتمنى استمرار فشله حتى تصب أوراق الناخبين في صناديقه. وبين الأزمتين أخذ بوش يستخدم ورقة العراق للضغط على الديمقراطي تحت شعارات المصلحة الأميركية المشتركة والأمن القومي لإظهار منافسه في موقع غير مسئول. ومشكلة الديمقراطي أنه لا يريد أن يظهر في هذا الموقع ولكنه يتجنب دعوات المصالحة والتفاهم على الموضوع العراقي حتى لا يخسر أقوى ورقة سياسية في معركته الانتخابية.
اجتماع «البيت الأبيض» الأربعاء المقبل يشكل نقطة مفصلية في الصراع الداخلي. والاتجاه الذي سيخرج به المجتمعون سيترك تأثيره ولو بنسبة محدودة على التوازن الانتخابي. فإذا تراجع الديمقراطي عن شروطه وأعطى بوش ما يريد فإنه يكون قد خرج من تهمة التفريط بالمصالح والأمن والاستراتيجية العليا ليدخل في مراهنة أخرى تتصل بمدى احتمال نجاح خطة الرئيس الأمنية. وإذا لم يتراجع عن شروطه ورفض إعطاء بوش ما يريده يكون الديمقراطي تورط في سجال إعلامي بتهمة سلوك طريق يُعرّض مصالح الولايات المتحدة للخطر ولكنه حافظ على تلك الورقة القوية في الانتخابات المقبلة.
أزمة ممتدة
بانتظار ما ستسفر عنه المفاوضات سيبقى العراق ساحة أميركية داخلية تتواجه في ضوء نتائجها الكثير من السياسات الإقليمية و «الشرق أوسطية». فالساحة العراقية أصبحت ممتدة إلى الجوار ولم تعد تقتصر معركتها على داخل بلاد الرافدين. وهذا أيضا ما بدأ الحزب الديمقراطي يراهن عليه. فهناك مجموعة خيوط أخذت ترسم منذ الآن سياسة مضادة لاستراتيجية بوش. فالعلاقة مع سورية وموقعها ودورها الإقليمي أصبحت تمر بالعراق. والعلاقة مع إيران وموقعها ودورها الإقليمي أصبحت مرتبطة بالعراق. وموقع تركيا ودورها الإقليمي ورؤيتها لهوية شمال بلاد الرافدين أخذت تتولد منها أزمة أمنية قد تدفع أنقرة إلى تبديل سياسة الحياد والانتقال إلى خط الهجوم دفاعا عن مصالحها في دائرة تعتبر حيوية لضبط حدودها الشرقية.
مشكلة العراق تحولت بعد أربع سنوات من احتلال بغداد إلى أزمة إقليمية تمتد خيوطها إلى خارج الحدود. وهذه المستجدات تعتبر خطيرة بغض النظر عن التوجه الأميركي بعد اجتماع الأربعاء في «البيت الأبيض». التفاهم الديمقراطي/ الجمهوري على العراق يتطلب من الطرفين سلسلة مصالحات تتضمن الملف الإيراني ومعالجة مشروع التخصيب، الملف السوري والتوافق على المحكمة الدولية وصيغة العلاقة مع لبنان... وأيضا دخل ملف الأمن التركي على الخط وبات على واشنطن الآن بحث مسألة الشمال و «الدولة الكردية» وموضوع أكراد الأناضول واتصاله باحتمال طرح مشروعاتٍ للتقسيم أو إعادة ترسيم حدود سياسية يعود تاريخها إلى نهاية الحرب العالمية الأولى.
ساحة العراق تحولت فعلا إلى مشكلة أميركية داخلية ولكنها أيضا أخذت تكشف في الأفق عن مجموعة خيوط إقليمية يحتمل أن تجرجر المنطقة إلى سياسة منافسات لتعبئة الفراغ الأمني في حال قررت واشنطن الانسحاب من بلاد الرافدين خلال سنة أو سنتين.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1683 - الأحد 15 أبريل 2007م الموافق 27 ربيع الاول 1428هـ