انتهى المقال السابق إلى أن القطاع الزراعي في دول مجلس التعاون قد وصل إلى مرحلة حرجة، وبأن السياسات الزراعية السابقة لتحقيق الاكتفاء الذاتي/ الإنتاج الأقصى للغذاء، والقائمة على التوسع في الأراضي الزراعية بهدف زيادة الإنتاج الزراعي قد وصلت إلى أعلى نقطة ممكن الوصول إليها، وباتت غير ممكنة بسبب استنزاف المياه الجوفية وتدني نوعيتها وتملح الأراضي الزراعية، ما أدى إلى خروج الكثير من الطبقات المائية والأراضي الزراعية من دائرة الاستثمار في دول المجلس. وتشير الدراسات المستقبلية في هذا المجال إلى انه إذا ما استمر حال استنزاف الموارد الجوفية على ما هو عليه فربما ينتهي الأمر باختفاء هذا القطاع من النشاط الاقتصادي والنسيج الاجتماعي لمعظم دول المجلس خلال عقدين على الأكثر. وبأنه لكي يستمر الإنتاج الزراعي المحلي في المحافظة على مستواه والمنافسة في السوق، فإن عليه استخدام مياه أقل لإنتاج أعلى، وإنتاج محاصيل ذات قيمة سوقية عالية.
وحاليا أصبح من الواضح أنه مع محدودية الموارد المائية المتاحة وتدهورها المستمر فإن سياسات استخدام الموارد المائية الجوفية في الزراعة باستخدام أنماط الزراعة التقليدية غير ممكنة على المدى المتوسط والبعيد. كما أن الإمعان في هذه السياسات، أو حتى التخلي عنها تدريجيا في ظل الوضع الحرج الذي وُصل إليه، قد يكون نوعا من العبث بالموارد المائية المحدودة في المنطقة والإضرار بها. ولذلك يتطلب الأمر النظر بعقلانية إلى هذه السياسات الزراعية وربطها بشكل وثيق مع السياسات المائية في إطار متوافق، وبحيث تكون المحافظة على سلامة الموارد المائية واستدامتها، عنصر الإنتاج الزراعي الرئيس، من أهم أهداف هاتين السياستين.
وبالنظر إلى كمية المياه التي يستخدمها القطاع الزراعي، والتي بلغت حوالي 24 مليار متر مكعب في العام 2000 (حوالي 85 في المئة من إجمالي الطلب على المياه في دول المجلس وحوالي 90 % من استخدامات المياه الجوفية)، والممارسات الزراعية الحالية التي ينتج عنها كفاءة ري منخفضة جدا تصل إلى 30-45 في المئة بسبب استخدام أساليب الري التقليدية في ما نسبته 75-90 في المئة من المساحات الزراعية في دول مجلس التعاون، فإنه من البديهي أن تتركز الجهود الوطنية في دول مجلس التعاون على القطاع الزراعي في مجال ترشيد المياه والمحافظة عليها وإصلاح الوضع المائي، إذ ان هناك مجالا واسعا لتحقيق توفير كميات كبيرة من المياه الجوفية المستخدمة في هذا القطاع.
وبتحليل سريع لمشاكل القطاع الزراعي في دول مجلس التعاون، نجد أنه، بالإضافة إلى انخفاض كفاءة الري وهدر كميات عالية من المياه، فإن متطلبات هذا القطاع قد تضخمت بسبب الكثير من الأسباب، ومن أهمها ضعف التنظيمات والتشريعات المتعلقة بالمياه الجوفية في دول المجلس، وحفر الآبار غير المدروس والعشوائي وغير المقيد والقصور في تنفيذ الإجراءات القانونية ضد عمليات الحفر غير المشروعة، وزراعة المحاصيل عالية الاستهلاك للمياه مثل القمح والشعير والأعلاف، وعدم وجود تعرفة مناسبة لاستهلاك المياه الزراعية تشجع على ترشيد المياه في هذا القطاع.
ومنذ منتصف التسعينات من القرن الماضي ومع زيادة تأزم الوضع المائي، بذلت دول مجلس التعاون جهودا كبيرة للسيطرة على الوضع غير المستدام للقطاع الزراعي، ووضعت في هذا المجال الكثير من الخطط والبرامج في مجال رفع كفاءة الري الزراعي بإدخال طرق الري الحديثة المرشدة للمياه، وتقليل الدعومات الزراعية لعملية الإنتاج الزراعي وكذلك لبعض المحاصيل عالية الاستهلاك للمياه والتركيز على الإعانات الزراعية الموجههة التي تشجع الاستخدام الكفء لمياه الري، وتطبيق إجراءات تنظيمية وقانونية لحفر الآبار في محاول. كما وضعت دول المجلس خطط طموحة لإعادة استخدام المياه المعالجة في الري الزراعي لتخفيف الضغط على المياه الجوفية.
إلا أنه وعلى رغم هذه الجهود والإجراءات المبذولة منذ أكثر من عقد، فإنها تبدو قاصرة وغير فعالة وخصوصا في مرحلة التنفيذ، ولم تستطع إيقاف التدهور المستمر للمياه الجوفية في دول المجلس كافة، ولم تتم الإشارة إلى تحسن أو ثبات حالة التدهور في خزان جوفي واحد في هذه الدول.
ولذلك، وفي ظل هذه الظروف يصبح تطبيق الأدوات الاقتصادية هنا أمرا لا مفر منه من حيث تطبيق التعرفة المناسبة على استخدام المياه الجوفية في الزراعة لتشجيع ترشيد المياه وزيادة الإنتاجية الزراعية. وعلى رغم أن سياسات تسعير المياه الزراعية تمثل أحد الحلول الهامة لمجابهة هذا الوضع، إلا أنه يبدو أن تطبيقها هو من الأمور التي يصعب تطبيقها في دول المجلس في المدى القريب للكثير من الأسباب، ومن أهمها السياسية والاجتماعية، ولا يمكن أن يعول عليه.
ومن جهة أخرى، وفي ظل هذه الظروف يصبح من الضروري النظر إلى المحاصيل المنتجة في دول المجلس وحساب الميزة النسبية التي تمتلكها هذه الدول في إنتاجها مقارنة بالدول المجاورة الأخرى، والقيام بالتحليل المناسب للتكاليف والمنافع المختلفة من إنتاج هذه المحاصيل وحساب المياه الافتراضية المطلوبة لكل من هذه المحاصيل (انظر «المياه الافتراضية»، الوسط، العدد 1297، 26 مارس/ آذار 2006)، ومن ثم وضع السياسات التي تقلل من إنتاج المحاصيل التي لا تمتلك دول مجلس التعاون الميزة النسبية فيها، وخصوصا ذات الاستهلاك العالي للمياه، مثل الأعلاف الخضراء (البرسيم)، مصدر الغذاء الرئيس للمواشي.
وعلى سبيل المثال في مملكة البحرين، نجد أنه على رغم أن مساحة الأراضي المزروعة بالأعلاف تمثل 30 في المئة فقط من الأراضي المزروعة الكلية في المملكة، إلا أنها تستهلك حوالي 70 في المئة من المياه الجوفية الكلية المستخدمة في القطاع الزراعي. وللدلالة على كميات المياه المستخدمة في زراعة الأعلاف المستخدمة للإنتاج الحيواني تشير دراسة للماجستير في جامعة الخليج العربي إلى أنه تحت ظروف مملكة البحرين الزراعية السائدة يتم استخدام 3.5 متر مكعب من المياه لإنتاج كيلوجرام واحد من الحليب (حوالي لتر واحد)، ويتم استخدام حوالي 18 متر مكعب من المياه لإنتاج كيلوجرام واحد من اللحم الأحمر! وتبين هذه الأرقام مقدار التوفير الممكن الحصول عليه في الاستغناء عن هذا المحصول، وتصبح هنا عملية استيراده من الدول المجاورة، أو استبداله بالأعلاف البديلة التي تستهلك كميات أقل من المياه ولديها نفس القيمة الغذائية، ذات أهمية قصوى لتوفير المياه الزراعية.
ونجد أن بعض الشركات الزراعية الكبرى في دول المجلس قد بدأت بالفعل في التوجه نحو تقنيات الري الحديثة، وكذلك الزراعة الحديثة، وزراعة محاصيل ذات قيمة سوقية عالية وترك تلك التي لا تمتلك المنطقة الميزة النسبية فيها بسبب المنافسة التجارية الخارجية، وذلك للتكيف مع الوضع الحالي لنقص المياه والأراضي وفي الوقت نفسه تحقيق الربح. ومن المتوقع أن يزداد هذا الأمر في المستقبل في الشركات الزراعية الكبرى بسبب حجمها وطبيعتها الديناميكية في اتخاذ القرار، إلا أن ذلك سيكون صعبا في غالبية المزارع الخاصة والصغيرة السائدة في دول المجلس.
ولذلك يبدو أن مواجهة التحديات الحالية التي تهدد استدامة القطاع الزراعي لا تحتاج إلى عملية تغيير في التفكير السائد حاليا المقتصر على محاولات لتعديل الوضع فقط، فهي غير كافية وغير مستدامة على المدى البعيد، وإنما تحتاج لعملية «تحول جذري»، يتم فيها، إذا صح التعبير، تغيير «جينات التفكير» السائدة حاليا، بحيث يتم مع عملية التحول هذه إعادة تأسيس القطاع والمجتمع الزراعي من قطاع بدائي ومتخلف يهدم بيده مقومات بقائه، إلى قطاع ومجتمع زراعي متقدم وحديث يستطيع الاستمرار والتوسع تحت ظروف الندرة المائية، ويحقق في الوقت نفسه الأهداف التنموية الاجتماعية والاقتصادية لدول مجلس التعاون، وهو موضوع المقال القادم.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1682 - السبت 14 أبريل 2007م الموافق 26 ربيع الاول 1428هـ