بتاريخ 12 أبريل/ نيسان الجاري نشرت قناة «العربية» على موقعها الإلكتروني تقريرا عن دراسة أصدرتها مؤسسة أميركية وصفها التقرير بالبارزة اسمها «رندا»، دعت فيها الإدارة الأميركية إلى دعم العلمانيين والإسلاميين المعتدلين في العالم الإسلامي، والدراسة تحت عنوان «بناء شبكات من المسلمين المعتدلين في العالم الإسلامي».
الفرضية التي انطلقت منها الدراسة التي شارك فيها 4 باحثين كبار مفادها أن الصراع مع العالم الإسلامي هو بالأساس «صراع أفكار»، وتهدف إلى التعرف على سبل مواجهة الولايات المتحدة لما أسمته بالمد الجهادي الأصولي في العالم الإسلامي، وذلك من خلال خلق أجيال من الإسلاميين المعتدلين يمكن من خلالهم مواجهة التيارات الأصولية.
وبغض النظر عن تفاصيل الدراسة، فإن الكثير من الباحثين أشار إلى أن حرب التغيير الفكري هي في المحصلة حرب ثقافية هدفها النهائي حفظ مصالح الغرب والولايات المتحدة الاقتصادية وضمان استدامة ذلك، بجانب القبول بدولة «إسرائيل» في الوسط الإسلامي كما يؤكد دائما كبار الساسة الأميركان.
ولقد كانت الدوافع لحقبة الاستعمار الذي ابتدأ في القرن السادس عشر هي في الأساس دوافع اقتصادية، تتمثل في العثور على أسواق جديدة تستهلك السلع والمنتجات الأوروبية، وبعد الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر ارتفعت الحاجة لمواد خام زهيدة الثمن لمزيد من الإنتاج من الدول الواقعة تحت الاستعمار، وفي نهاية القرن التاسع عشر دخلت أوروبا والدول المستعمَرة (بفتح الميم) التابعة في مرحلة الرأسمالية المالية حيث حرية انتقال رأس المال دوليا، ومن ثم سهولة السيطرة على اقتصاديات الدول الأخرى والتحكم فيها. لقد صاحب هذه المراحل ظلم شديد للشرق على أيدي الغربيين، ومصادرة لإمكاناته وإهدار لثرواته الذي استمر طويلا، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية.
وبعد الحرب العالمية الثانية، تحقق للكثير من دول العالم الثالث الاستقلال السياسي النسبي، ولكن مع تخلف متفاوت في المجال الاقتصادي، وانعكس ذلك على تدني مستوى الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة، والتخلف في مجال الصناعة والزراعة.
وخرج الاستعمار، ولكنه ترك خلفه في الكثير من دول العالم الثالث المتخلفة في مناصب إدارة الدولة نخب مغرمة بالحياة الغربية، ولكن لهم عقليات استبدادية مستخفة بشعوبها، غير مقتنعة بوجود حلّ لمشكلة التخلف من داخل الشرق نفسه.
لقد أصبحت الكثير من الدول المتخلفة تابعة اقتصاديا للغرب وغير قادرة على الاعتماد على نفسها في تحقيق التنمية.
وبعد انتهاء الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الشيوعي الاشتراكي، وانتهاء عصر ثنائية القطبية، أدرك الغرب بعدم جدوى الاتكاء على النخب الحاكمة التي أهدرت خمسين عاما في مزيد من تنمية التخلف، والتي تلبي لهم ما يحقق مصالحهم الاقتصادية، فعلى المدى البعيد، سيظهر جيل آخر، يصارع من أجل أن يحفظ مصالحه وثرواته ويقطع أيدي السلب الممتدة إلى جيوب الشرق الغنية بالمواد الخام عن طريق الرجوع لهويته الثقافية التي غفل عنها طويلا وعن دورها الحاسم لتحقيق النصر على مختلف الصعد.
لهذا كان لابدّ من استراتيجية جديدة تتبنى الاتجاه للتغيير من الجذور، أو بتمثيل آخر، السعي لتغيير داخل الإنسان الشرقي مع اللجوء للقوة إذا اقتضت الضرورة لمواجهة أية جبهة ممانعة أو دولة تسعى للتنمية المستقلة الحقيقية.
وهذا يعني عملية تغيير تستهدف فكر هذا الإنسان، ولأن السلوك العملي للإنسان تابع لفكره، فإن عملية التغيير الداخلي المرتقبة ستحقق ضبطا لهذا السلوك ينسجم مع الأهداف والمصالح المتوخاة من وراء ما أطلقت عليه الدراسة بـ «صراع الأفكار»، وما الضغوط الأميركية لتغيير مناهج التعليم الديني كحذف آيات الجهاد - مثلا- والموقف السلبي تجاه «إسرائيل»، إلا نموذجا عن هذا التوّجه.
وعن طريق التأثير على الفكر وما يحمله من عقائد ومفاهيم حول الإنسان والحياة والكون والتي انبثقت عن عقيدته، والتي تعبّر عن هوية المجتمع والفرد، والتي ينطلق منها في علاقاته مع الآخرين ومع كل شيء في الحياة، فإن ذلك يعني تغيير ثقافة المجتمع.
ولهذا لو تم تغيير هذه القوة الداخلية في الإنسان (التغيير الثقافي)، فإن السلوك العام والأفعال ستتبع هذا التغيير ليتماهى مع المصالح المرجوة تحقيقها ومنها تقبّل الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، بجانب محاصرة ما أسمته هذه الدراسة بالإسلام الراديكالي. والتغيير الثقافي يقود إلى تبعية سياسية ستصب في صالح القبول بوجود الكيان الصهيوني، وتكون الثمرة النهائية عبارة عن تبعية اقتصادية لن تفرق عن زمن الاستعمار تقوم على استنزاف ثروات الشرق بواسطة بناء علاقات اقتصادية غير متوازنة مع الغرب و«إسرائيل»، وستستمر ما بقيت روح الهزيمة والتبعية التي يعيشها الإنسان الشرقي في داخل نفسه والتي أولدتها التبعية الثقافية، لأن التبعية الثقافية عبارة عن تغيير داخلي للإنسان وهزّ عنيف لثوابته ومرجعيته الفكرية، ومن آثارها التبعية السياسية والاقتصادية.
وقبل الدراسة الأنفة الذكر، وفي محاولة لكسب النخب المؤثرة في المجتمعات الإسلامية قدّم الأميركان مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي قبله البعض كحزمة واحدة بسلبياتها وإيجابياتها لاعتبار أن الإيجابيات في نظرهم أكبر من السلبيات.
ولكن نشر الديمقراطية التي دغدغت خيال شعوب المنطقة والتي بشّر بها هذا المشروع ذهبت سدى وذابت كما يذوب فص الملح في الماء المغلي حين ظهر فجأة مشروع الشرق الأوسط الجديد والتقسيم الجغرافي على أسس طائفية، وتم التخلي عن منتدى المستقبل الذي استبشر به الكثيرون.
وأخيرا وبموازاة ذلك كله، فإن الإدارة الأميركية حين شعرت بأن المشروع الأول لن يحقق أهدافها، والمشروع الثاني مشكوك في أمره، خاصة بعد حرب تموز العام الماضي بين حزب الله و»إسرائيل»، لجأت مرة أخرى للنخب الحاكمة، واستبدلت وصفهم بالاستبداد والدكتاتورية إلى وصفهم بالدول المعتدلة.
حاليا وعن طريق هذه النظم الحاكمة، تدعو الدراسة الجديدة من خلال ما أسمته بـ «حرب الأفكار» بخلق جيل معتدل عن طريق دعم ما أسمتهم بالإسلاميين المعتدلين والليبراليين في مواجهة الراديكاليين.
إن الأحداث المتتالية أفقدت الثقة في حقيقة التوجهات الأميركية لدى كل النخب، وينظر لها البعض على أنها تبدل الأساليب والآليات ولكن الأهداف تبقى كما هي، خصوصا مع التركيز على الدعوة للانفتاح الاقتصادي، وإهمال دعم نشر الديمقراطية والإصلاح السياسي.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1682 - السبت 14 أبريل 2007م الموافق 26 ربيع الاول 1428هـ