التفجيرات المتتالية التي وقعت في الدار البيضاء والجزائر تكشف عن وجود مساحة واسعة للعنف تمتد من الخليج إلى المحيط. فالتفجيرات في منطقها السياسي غير مبررة فهي أصابت أحياء مدنية وقتلت أبرياء وأثارت مخاوف وزادت من نسبة القلق. وكل هذا الخراب لا معنى له إنسانيا وسياسيا. ما هي الرسالة إذا التي أراد الطرف الذي يقف وراء التفجيرات أن يوجهها؟ القتل من أجل القتل أم هناك منطق غير مفهوم يتحكم بمسار العنف في المنطقة العربية من مشرقها إلى مغربها.
حتى الآن لم تقل الجهة المعنية كلمتها في الموضوع. فهل التفجير يتعمد تخويف الأجانب والسياح وشركات الاستثمار ورجال الاعمال ودفعهم نحو المغادرة؟ وهل المقصود إظهار الدولة في موقع الضعيف وغير القادر على حفظ الأمن وتحمل مسئولية حماية الناس والدفاع عن حياتهم؟ وهل المقصود الاحتجاج على الوجود الأجنبي في المنطقة وتحذير الدول الكبرى صاحبة المصالح بعدم التفكير في البقاء والبحث عن مخارج للهرب؟
هذه الاحتمالات واردة، ولكن الطرف المتهم بالتفجير لم يقل كلمته بعد. وكل ما صدر في هذا الصدد مجرد بيانات منسوبة إلى أطراف مجهولة تحمل مسميات قد تكون صحيحة أو كاذبة. حتى المصادر الأمنية في الجزائر والمغرب لاحقت جهات واعتقلت بعض الأفراد واتهمت منظمات وأحبطت محاولات، ولكن المجموع العام لايزال يحتاج إلى أدلة واضحة تثبت الاتهامات وتؤكد التخمينات.
لنفترض جدلا أن شبكات تنظيم «القاعدة» هي من شجع وخطط ونفذ عمليات التفجير. ولكن لماذا فعل هذا؟ وضد من؟ وما هو الهدف من قتل الأبرياء؟ وما هو المكسب الذي يتحصل عليه تنظيم «القاعدة»؟
فعلا هناك منطق غير مفهوم سياسيا. فالسياسة لا تعني قتل الناس في منازلهم والمارة في الشوارع. القتل المجاني ومن دون هدف وعن غير قصد وبالمصادفة كلها مفردات تشير إلى انعدام السياسة. وهذا النوع من العنف هو الجديد في عالم يتغير ويتعولم. ومثل هذه الأعمال لا يمكن تفسيرها أو تبريرها أو قراءة منطقها إلا من خلال رؤية عالم آخر يختفي وراء عالم ظاهر أمامنا.
كثير من التحليلات السياسية أو الاجتهادات الاجتماعية أو القراءات الاستخباراتية تربط أعمال العنف هذه بالإسلام والثقافة الإسلامية ومناصرة الدين للإرهاب. إلا أن معظم تلك التفسيرات والشروحات تخالف الواقع في اعتبار أن كل حادث لابد له من غطاء معقول ومقنع يبرر الفعل ويعطيه المعنى ويوجه من خلاله رسالة تشي بالهدف المقصود من وراء الانتحار أوالتفجير.
المسألة معقدة ولا يمكن فهم عناصرها المتداخلة إذا استمرت القراءة تعتمد على مجموعة فرضيات تطلق بسهولة ومن دون تدقيق. لا يكفي أن يقال «تنظيم القاعدة وراء التفجيرات». فهذا التبسيط يعطل التفكير ويختزل الكثير من الهوامش والتفصيلات المهمة لإعادة تركيب المشهد ورؤيته من مختلف الزوايا.
هناك أسئلة يمكنها أن توضح بعض تلك الاختصارات والاتهامات المتسرعة. مثلا أي «تنظيم قاعدة». فهل التنظيم شبكة واحدة ممتدة من أفغانستان إلى المغرب أم هو تنظيمات مستقلة تتصرف بقرار منها ولا يوجد ذاك التراتب الهرمي المركزي الذي يصدر الأوامر والتوجيهات ويحدد الأمكنة والأزمنة؟
إذا كانت المجموعات تخضع لرؤية مشتركة وتنفذ الأوامر الصادرة من مكان واحد فمعنى ذلك أن الضربات التي حصلت في وقت واحد تقريبا في الدار البيضاء والجزائر تريد توجيه رسالة إلى البلدين أو الشعبين أو الدولتين. فما هي تلك العناوين ولماذا تقصدت توقيت التفجيرات في زمن متقارب؟ حتى الآن لم توضح تلك الشبكة من الخلايا أهدافها أو على الأقل لم تشرح وظائف تلك التفجيرات والفوائد المتوقع أن ترشح عنها.
المسألة إذا معقدة وليست بهذه البساطة. احتمال أن تكون المجموعات موحدة في شبكة مركزية تتلقى التوجيهات والأوامر مباشرة من حلقة ضيقة وارد وغير مرجح في آن. وارد إذا كانت هناك مجموعة نتائج للأفعال وغير مرجح لأن الوقائع الميدانية تؤكد أن النقاط المستهدفة لا تعطي الثمار المرجوة من وراء أمكنة التفجيرات.
الاحتمال الآخر هو أن تكون كل مجموعة تتصرف وفق أهواء خاصة بها ولا تخضع لشبكة خلايا هرمية تتلقى توجيهات مركزية. هذا مرجح في اعتبار أن التفجيرات اعتباطية تشوش على الدولة وتؤذي الناس ولا تقدم ولا تؤخر في المعادلات السياسية. فالولايات المتحدة غير متضررة و»إسرائيل» مستفيدة في حسابات الربح والخسارة وبالتالي فان منطق التفجيرات لا يمت بصلة إلى عالم السياسة أو الدين، بل هو في بعديه الظاهر والباطن ضد السياسة والدين.
إذاكانت المسألة محلية فلابد إذا من البحث في ملابساتها الداخلية من دون التخفيف من دور عناصر الخارج وما يعنيه من ضغوط عالم يتغير بسرعة ويتعولم.هناك مأزق تعبر عنه مثل هذه الأعمال العبثية والأفعال الاعتباطية. وهذا المأزق يتصل أولا بعالم اليوم وليس بعالم سابق. ويرد ثانيا على حياة معاصرة وليس على حياة ماضية. ويحتج ثالثا على حداثة قاهرة وظالمة ومستبدة وليس على تحديث جرى في زمن تاريخي غابر.
إسقاط الراهن من التحليل يضعف الرؤية ويدفع بالقراءة نحو التفكير في الماضي بينما الواقع المعاصر ربما يكون هو المسئول أو الدافع أو المشجع نحو الانتحار والتهرب من مواجهة حياة صعبة ومكلفة وتحتاج إلى نفاق والتواء للتعامل معها أو التكيف مع شروطها.
لصق التفجيرات بشبكات سرية ووهمية ربما يكون فكرة صحيحة، ولكنها غير وجيهة وليست كافية لالتقاط كل العناصر التي تتكون منها صور المشاهد الدموية المدمرة. كذلك لصق التفجيرات بالإسلام وثقافة الإسلام وتربية الإسلام وروح الإسلام وتاريخ الإسلام مجرد تهويمات ايديولوجية تريد التهرب من مسئولية الواقع الراهن والانكفاء إلى الوراء بحثا عن ذرائع واهية لتغطية الفشل والإحباط والعجز.
العالم العربي يمر في فترة ضاغطة دوليا وإقليميا ومحليا. ومثل هذا العالم المأزوم والممزق والمحكوم بسقف سياسي وأنظمة مقفلة لا تسمح بالانتقال والتداول يولد الكثير من السلبيات العنيفة وردود الفعل غير المفهومة وغير المنطقية. فالعالم العربي منذ أكثر من مئة عام يعيش أزمة الحداثة وفشل مشروعات التحديث والتطوير. حتى تلك «الحداثات» التي نراها في الجسور والأبنية والفنادق والخدمات وقطاعات الاستهلاك تأسست في سياق خارج إرادة الناس وبمعزل عنهم وبعيدا عن رؤيتهم الثقافية وعلاقاتهم الاجتماعية.
هذا النوع من التحديث والتطوير المسقط من فوق هو نتاج «العولمة» ومن إفرازات عالم يتغير بسرعة وليس له علاقة بالناس وحاجاتهم ومتطلباتهم. ومن طبيعة «حداثة» مستوردة أن تولد قوة مضادة غير قادرة على التأقلم والتفاعل وهضم التحولات من دون تشنج واضطراب ذهني ونفسي واجتماعي.
مشكلة العالم العربي في ظروفه الراهنة ليس الإسلام ولا الماضي. ومن يقول هذا الكلام يريد التهرب من المسئولية ويرفض التعامل مع الوقائع بموضوعية. المشكلة تبدأ من الراهن والحياة اليومية. ومأزق الحداثة أنها أسست مواقع خارج العلاقات الأهلية وهمشت الناس وتعالت على مشاعرهم وثقافتهم وعطلت دورهم التاريخي في المشاركة في عملية التحديث والتطوير والإصلاح. والعنف غير المبرر الذي نراه في مشاهد متنقلة من أفغانستان والعراق إلى الجزائر والمغرب ليس بالضرورة يخضع إلى شبكة خلايا مركزية إرهابية ولا إلى تصورات سياسية ولا إلى تنظيم هرمي يصدر الأوامر ويعطي التوجيهات بالانتحار هنا وهناك. المسألة يمكن النظر إليها من مأزق الداخل وصلته الخارجية بعالم يتغير بسرعة وعولمة فاجرة وقاهرة تؤسس مواقعها في أحياء وجزر بعيدة بضعة أميال عن مجتمع آخر يعيش حياة عزلة تفرض عليه الانكفاء إلى عالمة الخاص والموت حزنا أم الاندفاع إلى الأمام والانفجار غضبا في أمكنة اعتباطية للتشويش على الدولة حتى لوأدى الفعل المجنون إلى إنزال الأذى بالناس أو قتل المار مصادفة في مجال ليس له وكان عليه ألا يمر فيه.
التفجيرات المتتالية التي وقعت في الدار البيضاء والجزائر غير مبررة في منطقها السياسي. فهي ضرب من الجنون. والجنون له أسبابه. وهذا ما يجب النظر إليه لمعرفة الطرف الذي يقف فعلا وراء هذه الأعمال.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1682 - السبت 14 أبريل 2007م الموافق 26 ربيع الاول 1428هـ