شارع واحد يستخدمه عشرات الآلاف كل صباح، عشرة منهم أو أقل يمكن أن يكونوا صحافيين جيدين ومن العشرة واحد ربما قد يكون صحافيا بيئيا.
وعدت بالعودة عبر وقفات إلى مجريات ورشة (صحافيو الغد) التي عقدت بالعاصمة اليمنية صنعاء بتنظيم من المجلس البريطاني وبالتعاون مع وزارة المياه والبيئة اليمنية. وهذه أولى وقفاتي مع ما فكرت به وأنا أستمع إلى الصحافي البحريني سعيد محمد الذي كان ضمن وفد البحرين في هذه الورشة في مداخلة مميزة له أثناء الورشة.
مع إشراقة كل صباح تنطلق آلاف السيارات البحرينية لتمر على شارع بعينه في طريقها إلى المدارس أو الأعمال المختلفة وليكن شارع الشيخ خليفة. لنفترض أن دخانا أسود كثيفا كان يغطي السماء على أحد جانبي الشارع. آلاف السيارات وعشرات الآلاف من الركاب داخلها تمر بذلك المشهد، منهم من يلاحظ ومنهم من لاينتبه. ممن لاحظ الدخان، منهم من سيلتفت للجهة الأخرى ومنهم من سينظر ثانية باستغراب. ممن أمعن النظر، مجموعة كبيرة ستستاء لكنها ستجد عذرا لتنسى الموضوع، قليلون سيتساءلون عن مصدر الدخان ويفكرون في وسيلة لمعرفة الإجابة. ومن هؤلاء المفكرون، قليل سيتصل بجهة معنية كجمعية أصدقاء البيئة وسيبلغ عما شاهد ويتساءل عن السبب. الأقل هم من سيغيرون مسار سياراتهم ليبحثوا عن السبب بأنفسهم وقد يجرون اتصالات استفسارية كذلك. قليل من هؤلاء الأقل سيصلون إلى مصدر التلوث وقد يلتقطون صورا. قليل من «قليل الأقل» لن يكتفوا بالصور بل سيشرعون في البحث في الأرشيف والإنترنت وعبر مقابلات مع المعنيين ولقاءات مع المتضررين والمستفيدين حتى يصلوا لواقع ما وقع، أسبابه ونتائجه المحتملة ومن المسئول عنه وماذا سيتم بشأنه بل وسيجدون وقائع مشابهة جرت في الشارع نفسه أو شوارع أخرى في البحرين أو ربما خارجها وماذا تم بشأنها.
القلة الأخيرة هي من ستكون صحافة الغد البيئية المأمولة. وحدها الفئة الأخيرة هي القادرة على إعلام الناس والمسئولين بواقع البيئة من خلال مشاهدات يومية ينقلها صحافي مجيد مؤمن برسالته الصحافية على وعي جيد بالقضايا البيئية من دون أن يحتاج بالضرورة لأن يكون عالما متخصصا في أي مجال من مجالات البيئة. الاهتمام، الإخلاص، المثابرة، الفضول الصحافي، الجرأة والشجاعة، الذكاء وحسن التصرف، المقدرة على البحث والتواصل السريع مع مصادر المعلومات ثم المقدرة على الكتابة بشكل موضوعي ومشوق في آن والحصول على أفضل طريقة ومساحة للنشر هي مايحتاج إليها الصحافي البيئي أولا وقبل أي شيء.
الصحافة البيئية عمل شاق جدا ومتعب ويستدعي أحيانا تضحيات كثيرة لكل ماذكر أعلاه ولأنه عمل صحافي يتطلب النزاهة ولأنه متعلق بالبيئة التي تمس صحة الناس وحياتهم بينما تقع قضاياها (أي البيئة) في أسفل قائمة أولويات العقلية الاقتصادية أو التجارية أو السياسية.
كم من قضايانا البيئية المهمة أهمل ؛لأننا لم نجد في ذلك الوقت الحرج، صحافيين بيئيين يتبنون تلك القضايا ويعطونها حقها؟ في حين أن القضايا البيئية التي نجحنا في إيصالها للجمهور، كان من أهم عوامل نجاحها صحافي بيئي شجاع مجيد قدم للعالم تلك القضية بشكل واضح وعرض قوي مؤثر من خلال مساحة وشكل جذابين أتاحها له رئيس تحرير أو محرر صفحة واع.
هل كانت البحرين بأسرها ستعرف عن قضايا «فشت العظم» و»الحزام الأخضر» بهذه الصورة وتلقى عناية كتاب الأعمدة الكبار (والذين هم جزء من الصحافة البيئية ولو بصورة غير مستمرة) وقراء الصحف، ويتحدث عنها الناس في المجالس والطلاب في المدارس والجامعات والمسئولون في وزاراتهم ولجانهم بل والمرشحون النيابيون والبلديون، لولا توفيق الله أن أيد جهود جمعية أصدقاء البيئة ومن ثم التكتل البيئي بعدد من الصحافيين المجيدين الذين تبنوا فشت العظم ومعه بحار البحرين وموائلها البحرية المهمة، وتبنوا الحزام الأخضر ومزارع البحرين الحزينة، وكتبوا مرارا وتكرارا من دون ملل أو كلل واستمعوا لنا وترجموا ماقلناه في صورة مقالات وتحقيقات وأخبار وروبرتاج وغيره من أدوات وتقنيات صحافية حتى وصل اسم فشت العظم للجميع وعرف معنى مصطلح الحزام الأخضر من لم يكن على علم بوجوده من قبل؟.
عظيم هو الدور الذي يلعبه الصحافي البيئي مع الناشط البيئي! وعظيم هو الثمن الذي يدفعه كل منهما! وأعظم من ذلك هو الثواب الذي يحتسبانه عند عالم الجهر وما يخفى.
التفتوا حولكم واقرأوا الجرائد وارجعوا للأرشيف هل تستطيعون أن تعددوا أسماء صحافيين بيئيين مجيدين في البحرين؟ أنا لديّ في قائمتي الآن ثلاثة أسماء.
وقفة أخرى مع ما قاله الصحافي اليمني معين النجري من صحيفة الثورة اليمنية عن أن العنوان هو جزء مهم جدا من الموضوع الصحافي وأن هذا العنوان يجب أن يكون مشوقا ومحددا للموضوع في آن؛ فأعجب بعنوان (الأكياس البلاستيكية الشريرة) الذي اختارته التلميذة البحرينية (ضمن وفد البحرين المشارك في ورشة «صحفيو الغد») وسن نبيل لموضوعها الذي قدمته باللغة الإنجليزية، بينما لم تعجبه عناوين عامة مثل: (هل سيكون هناك غد؟!) مع انها مشوقه لكنها عامة جدا. كما لم تعجبه العناوين الواضحة والمحددة غير المشوقة مثل: (الحفاظ على البيئة) أو (مشكلة النفايات في صنعاء).
وعند هذا الموضوع خطرت ببالي عناوين قضايانا البيئية التي كان لها صدى كبير على غرار (النواب يدقون نواقيس الخطر بشأن حزام عذاري الأخضر) و(دفن فشت العظم جريمة في حق الوطن) و(انتصار الإرادة البيئية في مجلس النواب) و(البيئيون قلقون بشأن نفوق الأسماك في الحد) و(الخطر القادم... بحيرات تهدد بالموت والتلوث).
تذكرت المرات الكثيرة التي نقلنا فيها احتجاجنا للصحافيين ولرؤساء التحرير بشأن تهميش قضايا البيئة من خلال نشرها في مكان غير واضح أو من دون صور أو من خلال عناوين غير مناسبة أو مساحة صغيرة، وكيف أن ذلك يؤدي إلى إهمال الموضوع وضياع الهدف من نشره.
كثيرون ينظرون إلى الصورة ويقرأون العنوان قبل أن يقرروا إن كان الموضوع يستحق وقت وجهد القراءة أم لا. الإمساك بالقارئ وجذيه للموضوع البيئي مهم بالنسبة للنشطاء البيئيين، فوحده الرأي العام (بعد إرادة الله) القادر في الأوقات الحرجة على دعم القضايا البيئية وإنقاذ الموائل والكائنات من مصائر أليمة، وللعنوان والصورة في الموضوع المنشور دور كبير في ذلك.
ما أود أن أختم به مقالي هو ماقلته للتلاميذ من متدربي الورشة عن كتاباتهم خلال استشارتهم لنا أثناء إعدادها وكذلك بعد أن قرأوها أمام الجميع في الجلسة الأخيرة من اليوم الأخير لورشة (صحفيو الغد) في فندق برج السلام بالعاصمة اليمنية صنعاء.
لايهم إن كانت كتابتك أدبية أم علمية، تعبر عن تجربة ومعايشة شخصية أو عن قضية عامة متجردة من الجانب الشعوري، بل إن شخصية الكاتب وخصوصيته كثيرا ما تسترعي اهتماما أكبر بما يكتبه.
النقطة الفاصلة في كتابة موضوع صحافي بيئي هي وضوح الرسالة البيئية وأهميتها وصحتها ومقدرتك على جذب اهتمام الناس لقراءتها والتساؤل والبحث بعدها؛
فذلك وحده يحدد نجاح الموضوع من فشله.
إقرأ أيضا لـ "خولة المهندي"العدد 1682 - السبت 14 أبريل 2007م الموافق 26 ربيع الاول 1428هـ