المدن العريقة تُبقِي على سماتها وعناصرها المميزة ولا تفرّط فيما يحفظ تاريخها وتراثها. تجوبُ المدن العريقة فتلمس الحرص على العناية بمعالمها مهما مر الزمن وفرضت رياح التغيير واقتضت حاجات الحياة الجديدة. المدن العريقة لا تبقى عريقة إلا بالإبقاء على عناصر عراقتها.
شريان القلب للمحرق كانت براحة بن غتم، ولا أظننا نبالغ إن قلنا إن براحة بن غتم بالنسبة إلى مدينة المحرق كانت الطرف الأغر بالنسبة إلى مدينة لندن والساحة الحمراء بالنسبة إلى مدينة موسكو أو غيرهما من الساحات التاريخية في المدن العريقة. أما مفردة براحة فمؤنث براح وتعني: المكان. وجرى في التراث البحريني إطلاق مسمى براحة على المكان الخلاء مضافا لاسم الشخص أو العائلة الأبرز بين من يقيم بالمكان أو بمحاذاته. وكان البن غتم هم الأبرز في المكان وتطل بيوتهم على البراحة من غير جهة.
تحددت معالم براحة بن غتم مع تأسيس المحرق العاصمة السياسية والاقتصادية لجزر البحرين. وعلى رغم كثرة الساحات (البرايح) في المحرق القديمة، فإن براحة بن غتم حازت الكثير الذي يميزها من دون غيرها من برايح المدينة. لقد شكّلت براحة بن غتم المدخل الرئيس لقلب المحرق التي ظلت عاصمة لجزر البحرين ومركزا لحكمها حتى الثلاثينات الماضية. كانت البراحة وجهة القادم بحرا من الجزر الأخرى أو القادم - فيما بعد - عبر جسر الشيخ حمد، يدخل منها لقلب المحرق ولوسطها متجها شرقا لبيت الحاكم الشيخ عيسى بن علي الخليفة وبيوت أبنائه. وعلى أرضها مرت أول سيارة تدخل المحرق العام 1918 وكانت ملكا للشيخ عبدالله بن عيسى الخليفة الذي يقع بيته ومن ثم بيوت أبنائه بمحاذاة البراحة شرقا وشمالي شرق. ونظرا إلى كون البراحة شريان القلب للمحرق ونقطة التقاءٍ لسكانها فقد حفرت الحكومة نهاية العشرينات بئرا ارتوازية بوسط البراحة سمّتها «عين البلدية»، ثم طُمرت وحُفرت بدلا عنها بئرا أخرى على ساحل البحر غربي البراحة عُرفت بعين «حسينوه».
وتتميز براحة بن غتم بشكلها المربع المتصل بست طرق رئيسة تطل على البراحة من جميع جهاتها وتتفرع إلى طرقات فرعية وأزقة صغيرة عديدة تربط المنطقة بباقي طرقات وأزقة المدينة. بهذا المعنى كانت براحة بن غتم حلقة وصل لمناطق المدينة كلها. فمن الجنوب تطل على البراحة طريقان: جنوبية شرقية توصل إلى سوق القيصرية والأسواق المحيطة بها، وجنوبية غربية توصل لسينما المحرق والمقاهي المنتشرة حولها. أما الطريق المطلة على البراحة من جهة الشرق فتؤدي إلى براحة الشيخ عبدالله بن عيسى الخليفة ومنزله ومن هناك إلى بيت الشيخ عيسى بن علي الخليفة. ومن الشمال تطل على البراحة طريقان: شمالية شرقية توصل لبيت عبدالله الزايد ومجلس الشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة دخولا نحو براحة بن عجلان فأحياء المحرق الشمالية الشرقية، وشمالية غربية توصل لمسجد البنكي دخولا نحو أحياء شمال المحرق وغربها. أما الطريق الغربي فكان وجهة القادمين من خارج المدينة لدخول قلبها.
وللبراحة مكانة في تاريخ المحرق الوطني ونضالات شعبها ضد الوجود الاستعماري البريطاني في البحرين. ففي البراحة وفي الطرقات من حولها كانت الجماهير تتجمع لتعبر عن موقفها الرافض للهيمنة الاستعمارية أو لتلتقي بزعماء حركة الهيئة 1954-1956 وتستمع لخطبهم. وليس اعتباطا أن الزعيم الوطني عبدالعزيز الشملان أحد قادة حركة الهيئة حينما قرر الانتقال من سكنه الدائم في أم الحصم للسكن في المحرق إبّان تصاعد الحوادث الوطنية بقيادة الهيئة، قد اختار منزلا مطلا على البراحة من أقرب طرقها الفرعية جهة الشمال. وقد تعارفت نساء المنطقة على تسمية المنزل «بيت الزعيم»، وفيه تم اعتقال عبدالعزيز الشملان ليُحاكم ويُسفّر إلى سانت هيلانة. وخلال الانتفاضة الجماهيرية مارس/ آذار 1965 شكّلت البراحة والطرقات المحيطة بها معبرا مهما للمسيرات والمظاهرات القادمة من صوب سينما المحرق والمتجهة لشمال المدينة. وبمحاذاة البراحة كانت سيارات الشرطة تجوب الشارع الغربي الذي يفصل المدينة عن البحر متحاشية دخول المدينة المحصنة بأهلها، متحينة الفرص لضرب أو اعتقال المتظاهرين.
كما تميزت البراحة من دون غيرها بأنها وعبر تدرج تاريخها كانت سوقا مصغرة تخدم غرب المدينة وقلبها وتتوافر على جميع المستلزمات الحياتية المتطلبة حينذاك. براحة بن غتم كانت السوق الأقرب لمشاوير طفولتنا وصبانا ما بين الخمسينات والستينات الماضية. ذاكرة زواياها لم تزل مرسومة في بؤبؤ العين وبهرج دكاكينها لم يزل يتوهج في الأعماق. كانت البراحة تشدنا بما تبيعه دكاكينها من أصناف الحلوى(العنبري والقبيض وشعر البنات) والمكسرات والموالح الهندية. وكانت دكاكين الحرف والأعمال اليدوية وأصناف البضائع المعروضة أمام واجهاتها تشحذ خيالنا وفضولنا الطفولي. فوق ذلك كنا نتردد على البراحة مُرسَلين من الأهل لشراء الخبز وغيره من الاحتياجات البيتية.
ندخل البراحة من الطريق الشرقي فيواجهنا على زاويته الجنوبية الشرقية دكان صغير لبيع الذهب يجلس به بانيان هندي تعارف الأطفال على تسميته «مينة ونكلس» أي خاتم وعقد لأنه كان يطرد الأطفال عن واجهة المحل قائلا: «ما فيه حلاوة فيه مينة ونكلس». وبمحاذاة دكان الذهب على الزاوية باتجاه الجنوب يقع دكان عبدالرحمن بن جلال الذي كان يبيع الأطفال الحمص المجفف مطحونا ومخلوطا بالسكر. ولاحقا حل محله دكان لبيع المثلجات لصاحبه علي كمال الذي أطلقت قريحة الإبداع الشعبي عليه اسم «عليكو». ويحاذي دكان الذهب باتجاه الغرب دكان حدادة صغير يملكه علي بن رمل. وبعدهما عمارة قديمة يستقبل فيها الطبيب الشعبي السيد هاشم زواره من المرضى ويقرأ عليهم القرآن والأدعية، بالإضافة لبيعه الخيش والحبال وصمغ الودج. أما آخر دكاكين الجهة الجنوبية فكان دكان جاسم بوهيال الذي يبيع ما يطيب لنا من حلويات وبسكويت مستورد يرتب علبه في واجهة المحل بشكل هرمي يسلب ألباب الأطفال والمارة. وعلى زاوية المحل باتجاه الجنوب يقع مستودع عائلة سليس لحفظ المثلجات. وغربي البراحة يقع على الزاوية دكان لبيع الحلوى والزلابيا يعمل به العماني عبدالله المسقطي الذي أسمته القريحة الشعبية «زركة» و»عبود المسكتي». وقد اشتهر بجودة إنتاجه من الحلوى فأتاه المشترون من جميع أنحاء البحرين. وخلف الدكان باتجاه الغرب يمتد بيت كبير لعائلة بن غتم يحاذيه دكان صغير يسكن به أحد خدم العائلة ويدعى بوعجيل. كان بوعجيل ماهرا في صنع ألعاب الأطفال التي يعرضها للبيع مثل المروحة «الفرارة» التي يصنعها من الورق المقوى والجريد، وعربات الأطفال الصغيرة التي يصنعها من بكرات الخياطة. وبمحاذاة دكان الحلوى شمالا تقع عمارة صغيرة لبيع الأخشاب يديرها يوسف جعوير، وبقربها محل لبيع الأقمشة. أما شمالي البراحة فيقع المقهى الأشهر في المنطقة مقهى محمود. ويقال إن المقهى أول من باع شراب «البيبسي» في المحرق وحينها انتشرت إشاعة أن الشراب الجديد من المُسكرات، فكان الصبية يشربونه ويتظاهرون بالسكر والترنح. كان المقهى مكتظا طوال الوقت بمرتاديه وكان ردحا من الزمن مركزا لتجمع أعضاء نادي المريخ. كما اشتهر المقهى بإعداد وجبات الإفطار للعمال والموظفين الذين يملأون المكان منذ الصباح الباكر. وعلى زاوية المقهي باتجاه الشمال الشرقي يقع دكانان صغيران أحدهما لبيع التمور المعلبة والآخر لخياطة الثياب الرجالية يقوم عليه الخياط عبدالنبي. وعلى بعد بضع أقدام من دكان الخياطة يقع بيت الزعيم الوطني عبدالعزيز الشملان مواجها البراحة. ومن جهة الشرق يقع على الزاوية شمالا خباز يلاصقه باتجاه الجنوب دكان لبيع الكباب ثم دكان لبيع الفحم والكيروسين وأجزاء أرجيلة التدخين الشعبية «القدو»، وتحول لاحقا إلى دكان لبيع الخضراوات والفواكه.
كانت الحركة والصخب وجلسات الأصدقاء عند واجهات المحلات طابعا مميزا للبراحة التي ظلت على هيئتها القديمة حتى نهاية العقد السبعيني الفائت حين بدأت يد التغيير تطال دكاكينها ومحلاتها التقليدية. ولم تلبث العائلات المحرقية أن أخذت تغادر المنطقة بمن فيهم عائلة البن غتم. اليوم وقد مرت السنون لا تبدو براحة بن غتم أكثر من مربع صغير طالته التغيرات العمرانية واقتحم وسطه رصيف دخيل فعل في هيئته ما فعل. الموقع هو الموقع والطرقات هي الطرقات، لكن براحة بن غتم بعزها ورزها لم تعد هي. هلاّ أعدتم للمحرق شريان قلبها؟!
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1681 - الجمعة 13 أبريل 2007م الموافق 25 ربيع الاول 1428هـ