مرت أمس ذكرى 13 أبريل/ نيسان 1975. والذكرى هي بدء اندلاع الحروب الأهلية/ الإقليمية في لبنان التي امتدت سنوات حتى توصل فرقاء الصراع إلى نوع من التوازن السلبي أملى عليهم العودة إلى صيغة تعايش أنتجت «اتفاق الطائف».
هذه المناسبة المؤلمة شكلت أمس نقطة حوار للبحث في الأسباب والدوافع والعوامل المحلية والإقليمية والدولية التي ساهمت في انفجار لبنان وانهيار مؤسساته وعلاقاته الأهلية. كذلك كانت الذكرى مناسبة للنقاش بين اللبنانيين الذين يعيشون الآن فضاءات حرب أهلية وإقليمية ودولية تشبه تلك التي خيمت على أجواء المنطقة قبل 32 عاما.
اللبنانيون اليوم يمرون في حالات قلق وينتظرون بخوف تلك اللحظات التي ستندفع فيها القوى الى اصطدامات قد تعيد إنتاج الاقتتال الأهلي الممتد إقليميا وجواريا. فهل يتكرر السيناريو السبعيني أم أن الظروف اختلفت ولم يعد بإمكان القوى القادرة على تفجير الوضع أن تقدم على هذه الخطوة؟
هناك إجابات كثيرة وكلها تقول ان الساحة اللبنانية لن تستدرج مجددا إلى مناوشات أهلية. فهل هذا الإجماع على رفض الاقتتال الداخلي يشكل إجابة نهائية أم ان الاحتمالات السيئة ورادة في لحظة غامضة؟
المناقشات والحوارات واللقاءات التي عقدتها محطات التلفزة والفضائيات توضح بقوة ان عناصر الانفجار موجودة حتى لو ادعت القوى المعنية بالازمة انها ليست بصدد الانزلاق إلى مصيدة أهلية / إقليمية. عناصر الانفجار لم تعد سرية ويمكن قراءة عناوينها في أكثر من مكان، بل هي موجودة في التفصيلات المتداولة في الملفات المطروحة على الحوارات العلنية.
أهم نقطة يمكن ملاحظتها في تلك النقاشات تتركز في استمرار الخلاف على الإجابة عن سؤال محوري: هل لبنان دولة ذات سيادة أم هو ساحة مفتوحة للصراع؟
هذه المسألة شكلت أساس السجالات في مطلع السبعينات ولاتزال حتى اليوم نقطة حوار بين الفرقاء. وعدم التوافق الأهلي على تقديم الجواب النهائي بشأن هذه النقطة يعني بطريقة أو أخرى أن لبنان لايزال عرضة للاهتزازات الإقليمية والدولية.
دولة أم ساحة؟. هذا هو الخلاف. مفهوم الدولة من الناحية القانونية والشرعية الدستورية أو الدولية يعني ان هناك سيادة لبنانية على الأرض والشعب وأن الدولة تتحمل مسئولية كل ما يحصل في نطاقها الجغرافي حتى لو ادعت الضعف وتظاهرت بالعجز. فالقانون الدولي لا يعترف بسلطة أخرى غير سلطة الدولة وإلا اعتبرها فاشلة وتحتاج إلى مساعدة سياسية ومساندة عسكرية تضمن وجودها وتضبط حدودها.
مفهوم الساحة يختلف في توجهاته السياسية عن التعريف القانوني للدولة. فالساحة تعني الكثير من الأمور منها ان هذه المساحة الجغرافية، غير محددة الهوية وهي تحتاج إلى فترة زمنية لبلورة صيغتها السياسية. كذلك تعني أن سكان هذه المساحة الجغرافية فشلوا في التطور السياسي وهم بحاجة إلى وقت للتوصل إلى اتفاق يؤكد هوية مشتركة لشعب واحد.
حتى الآن تبدو الأمور غير واضحة. فمن جهة تبدو الدولة ضعيفة ومشلولة وغير قادرة على تحمل مسئولياتها. ومن جهة السكان يبدو الشعب اللبناني مجموعة «شعوب» تعيش على مساحة جغرافية محددة خطوطها في الخريطة السياسية ولكنها مفتوحة على حدود وجبهات وساحات إقليمية. وحين تكون الدولة محطمة أو عاجزة عن القيام بمهماتها المشروعة التي تنص عليها المواثيق الدولية والدساتير والمعاهدات فمعنى ذلك انها لا تستطيع ان تمارس سيادتها على الأرض ولا أن تبسط قوتها على التكوين الاجتماعي للسكان. وبما ان تركيب لبنان يتألف من طوائف ويتشكل من مذاهب موزعة على مناطق مفتوحة فإن خيارات الدولة تصبح قليلة ومحكومة بسقف التوافقات والتوازنات حتى تتجنب التورط في حرب أهلية ضد طرف أو أطراف لبنانية.
هذه المعضلة العضوية والتكوينية لشخصية لبنان وهويته كانت موجودة في العام 1975 حين اندلعت الحروب الأهلية/ الإقليمية وهي لاتزال موجودة في العام 2007 وبعد ان حصلت تلك المتغيرات الدولية والإقليمية لمصلحة بلاد الارز.
بين الأهلي والسيادي
لبنان في هذا المعنى الأهلي والسيادي لم يتغير وهو لم يتوصل إلى تجاوز الطائفة إلى الدولة. وحين يكون البلد يمر في طور زمني متخلف سياسيا ولم يتوصل في نموه التاريخي إلى طور الدولة فمعنى ذلك أن ساحته ستبقى مفتوحة للمتغيرات الدولية والإقليمية يستقر باستقرارها ويتأزم بتأزمها. ولهذه الاعتبارات المفهومية يمكن توقع انزلاق لبنان إلى فوضى سياسية تؤسس لاحقا ذاك الاقتتال الأهلي المفتوح إقليميا ودوليا على ساحات أخرى. وكل التطمينات التي تطلق من هنا وهناك قد تعكس تلك الرغبة النبيلة بعدم الانجرار إلى كارثة أهلية تمزق صيغة الكيان السياسي إلا أن الواقع الموضوعي أقوى من الرغبات والأحاسيس والإرادات الذاتية.
الإجابة عن سؤال «لبنان دولة أم ساحة» ليست سهلة. فهي تحتاج أساسا إلى مجموعة شروط موضوعية تبدو المكونات الأهلية غير جاهزة لها أو غير مستعدة لدفع كلفتها السياسية. فالدولة تعني التطور باتجاه سياسي يتجاوز حدود الانتماء الطائفي والولاء المذهبي. بينما الهويات الضيقة والموروثة والمجبولة بالقصص والأساطير والنماذج والأمثلة والنصوص المكتوبة أو المتداولة تعني أن الوعي الجمعي لم يتوصل بعد الى القبول بالآخر أو الاعتراف به ضمن صيغة دستورية مدنية تتجاوز حدود الانتماءات والولاءات الضيقة.
هذه المشكلات التكوينية تشكل الأساس الموضوعي لكل تلك الأزمات الأهلية التي تتمظهر في لبنان بأشكال سياسية وإقليمية وقومية ودينية. وبما ان الدولة غير مؤهلة بنيويا على حل هذه المشكلات لسلسلة اعتبارات منها ان النظام الذي تعتمده يُشَرْعِن الطائفية ويوزع المناصب والمقاعد وفق تراتب نسبي (حصص) على المذاهب والمناطق. ومثل هذا النظام يلغي دور الدولة سياسيا لأنه يتأسس على صيغة دستورية طائفية ومذهبية وليست لبنانية.
إن وظيفة النظام في لبنان إلغاء دور الدولة ومنعها من التقدم لممارسة صلاحياتها الدستورية وفرض سيادتها المشروعة قانونيا على الأرض والسكان. حتى لو أرادت الدولة الآن القيام بواجباتها فإنها لا تملك الإمكانات والقدرات والمؤهلات والمتطلبات الذاتية والموضوعية التي تساعدها على تنفيذ مهماتها. فالنظام الطائفي يلغي هذه المتطلبات موضوعيا ويعطل على الدولة حقوقها القانونية وشرعيتها الدستورية.
مشكلة الدولة في لبنان ليست مع الشعب في الدرجة الأولى وإنما مع النظام. فالنظام السياسي يعطل دورها وهو الذي يعطي الطوائف والمذاهب صلاحيات تشريعية وقضائية تنافس الدولة على موقعها التاريخي في صوغ هوية مشتركة تجمع سكان هذه المساحة الجغرافية في دائرة واحدة.
مضى 87 سنة على إعلان «دولة لبنان الكبير» و65 سنة على استقلال البلد و32 سنة على بدء الحرب الأهلية/ الإقليمية في بلاد الارز وحتى الآن لا يزال النقاش يدور في محطات التلفزة والفضائيات حول سؤال: دولة أم ساحة؟ الإجابة ليست سهلة والحل ليس سريعا. فالدولة تعني السيادة والسيادة تعني احتكار الدولة لعناصر القوة من اقتصاد إلى سلاح وأيضا تحتاج إلى نظام ينتج رجال دولة لا رجال طوائف ومذاهب. والساحة تعني تعدد الولاءات وتنوع الانتماءات وفتح المساحة الجغرافية على تقلبات المنطقة وأزمات المحيط السياسي.
الصورة التي تطل على المشهد العام ترجح مفهوم الساحة على الدولة. فالدولة ليست مطلبا نقابيا بقدر ما هي مجموعة شروط موضوعية تنتج هيئة دستورية تتطور زمنيا لتتجاوز حدود الهويات الضيقة المتوارثة وتعيد مزجها ودمجها في إطار يجمع الناس على مصير مشترك وأهداف موحدة. كل هذه الأمور والعناصر غير متوافرة في اللحظة الزمنية الراهنة. وحتى لو ارادت الدولة إقرارها الآن والمباشرة في تطبيقها واتخاذ الإجراءات الدستورية بشأنها فإنها تحتاج إلى وقت لإنجازها وربما إلى مجموعة «حروب صغيرة» غير قادرة على تحمل نتائجها الكارثية والإنسانية والوجودية.
أزمة لبنان مقفلة داخليا في اعتبار أن النظام يمنع الدولة من القيام بواجباتها. وحتى يتغير النظام لتتغير مفاهيم الناس فإن البلد يحتاج إلى مساعدة عربية وإقليمية وفضاءات دولية تسهل له تقطيع الوقت قبل أن تتقطع أوصاله.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1681 - الجمعة 13 أبريل 2007م الموافق 25 ربيع الاول 1428هـ