ربما أصبح من قدر قرية «الشاخورة» الصغيرة، والواقعة على حزام شارع البديع العمراني الأخضر المتكاثف ازدحاما وبلبلة، أن تزف في كل موسم الشهداء إلى عليين (بإذن الله تعالى)، بدءا من شهيد الأقصى محمد جمعة الشاخوري، والذي وإن لم تتح له الفرصة للذهاب إلى فلسطين المحتلة إلا أنه زف مباشرة من أرض المسيرة المباركة قرب السفارة الأميركية، فارسا وبطلا يحمل لواء القضية الإنسانية الوجودية الأولى عالميا إلى ذات المنتهى الأعلى، الذي تزف إليه جميع أرواح شهداء الأقصى.

والآن تودع «الشاخورة» المفجوعة، ومعها عموم مناطق البحرين عباس الشاخوري شهيد الشعب البحريني الكادح والصابر، ليكن في جوار شهداء العمل والوطن الذين ارتقوا مدارج ومسالك السماء بعد أن قضوا آخر دقائق حياتهم وسط زحام ساعات الدوام الوظيفي التي قضوها بجد وإخلاص، وتارة أخرى في لهيب الانتفاضات العمالية والنقابية المطالبة بأبسط الحقوق المعيشية، والرافعة للمطالبات الشعبية الوطنية، وتارة أخرى هما وشقاء من سوء الحال وضنك العيش.

وسيظل مكان الجريمة في قلب العاصمة مغلفا بكآبة المشهد وغموض الفجيعة، وسيظل الجميع يشتعل حيرة وترقبا، والرعب ملأ المآقي والقلوب حول قصة وسيناريو ومصدر تلك الرصاصة الجهنمية المباغتة، والتي اخترقت في الجمعة الرأس العالية لهذا الشاب الجاهد المكافح، وانفجرت بداخلها شظايا، ليرحل وهو بانتظار أجره الوظيفي وقوت معيشته ورهن مستقبله ومستقبل عائلته وأبنائه المرتقبين، فكان الأجر الأخروي أقرب إليه من أجره الدنيوي، عسى أن يحشره الله في مصاف الشهداء، ويلهم أهله وذويه والشعب البحريني الكادح الصبر والسلوان.

ولكن للأسف وفي الوقت ذاته الذي تجتهد، وكما يبدو، التحريات الأمنية الرسمية بكل مثابرة بادية إعلاميا للتعرف على معالم تلك الجريمة الفارقة نوعيا، ولإدراك وتحديد هوية القاتل والمتورطين، يبدو أن البعض المريض قد توصل، ربما بوحي وإلهام، إلى دوافع اخرى تقف خلف جريمة اغتيال الشاخوري !!

فأمثال هؤلاء على استعداد وتأهب ملحوظ لتحويل جريمة اغتيال مواطن بحريني إلى جريمة لاغتيال المجتمع البحريني بكامله فقريا ومفصليا، عبر إثارة البلبلة والتشويش، واستنهاض الهمم والتحزبات المستبقة لنتائج التحقيق في الجريمة وملابساتها، بما يفيض به الخيال الخصب من أحقاد وتقيحات ذاتية، وعقد نفسية مكبوتة!

فلقد اغتيل الشاخوري، وليقتل الآن المجتمع بالرصاصة ذاتها التي فيما يبدو أنها لم تخترق جمجمة الشاخوري وتنفجر بداخلها شظايا، ولكنها اخترقت أيضا للأسف رؤوس المجتمع الذي لم يتوحد ألما وحرقة، ولكنه تأهب للتشظي والاستباق للأسف حول دلالات وملابسات الجريمة حتى قبل أن تحدث على غير المتوقع في بلد كالبحرين!!

ربما يترقب المواطنون التأسي والاقتداء بالنموذج الكويتي الشقيق في تطبيق العدالة والمساواة القانونية أساسا على الأقل، فيما يليق بدولة ومواطنة دستورية تكفل حقوق جميع المواطنين لا الرعايا وتساويهم كرامة بغض النظر عن الاختلافات الإثنية والطائفية والطبقية، فمثل تلك النماذج كفيلة بكل تأكيد في توجيه ضربات استباقية عبر اقتحام بعض الجحور والمغاور الإلكترونية، من أجل لجم وإخراس تلك الأشداق الدفرة والمنتنة الكفيلة بلوك وعلك كل ما يدخلها برضاب الطائفية، وأسنة التفتيت والتشطير المجتمعي في حالة مرضية لا تزل مستعصية على الحل أو الانكفاء!

ومثلما يعلق على رقبة المجتمع بكافة أفراده واجب تحقيق الأمن والاستقرار كشراكة مجتمعية ضرورية من قبل السلطات في البلاد، فإن من واجب الشعب المعلق على رقبة السلطات أن يكون أفراده شركاء في معرفة هذه الحقيقة، وكل الحقائق الأخرى، حتى تكتمل المعادلة وتتزن أقطابها الرئيسية منطقيا وواقعيا!

فلا يمكن تحقيق قاعدة صلبة ومتماسكة من الأمن والاستقرار على أرضية رخوة من ظواهر الريبة والشك وغياب المصالحات والتعاقدات الصحية، وفقدان الثقة المتبادلة بين سائر أطراف وأعضاء الجسد الوطني المبتلى بحمى صفراء!

فمثل تلك القواعد الأمنية المتكئة على حزمة إجرائية وتشريعية وضبطية أو قمعية ثقيلة ورادعة ليس مصيرها إلا السوخ والغرق والتلاشي طالما وجدت فوق قواعد اجتماعية مفككة ومريضة، ولاتزل تعاني من الاحتقانات وجروح الماضي الساطعة بالالتهاب والحرقة، ففي بعض الجوار أبهى الأمثلة وأبلغ النماذج الناطقة بسوء المنقلب الأمني على المال والأهل!

بلا شك إن ما نتطلع إليه كمواطنين هو أن تنجح ثقتنا الكبيرة والموصولة بقدرات الأجهزة الأمنية وكفاءتها العالية في أن تثبت هذه السلطات والأجهزة جدارتها وتميزها من خلال التعامل مع هذه الجريمة الخطيرة وغيرها من جرائم أخرى، إذ ستكون نتيجة التوصل إلى الحقيقة هي المحك ومعيار الاختبار لأداء السلطات والأجهزة الأمنية، وإدراك حقيقة وجود تحسن واقعي وملحوظ أمنيا في عهد وزير الداخلية الحالي الذي لا يزل واضحا ومرئيا لنا إعلاميا بهمته الإصلاحية العالية المعلنة، وتلك الهمة ينتظر المواطن ترجمتها كاملة واقعيا، فهل ينجحوا جميعا في مثل هذا الاختبار؟

بكل تأكيد نتمنى لهم التوفيق في ذلك لسلامتنا مجتمعيا ووطنيا، كما أننا نطالب بعض الأشداق والأقدام أن تكف عن تحريك هذه القضية كلاما وفعلا بأتجاهات اخرى ، وبالتالي تسيء لها وتزيد من هموم أهلها واصحابها، ألا وهم جميع المواطنون، لكي لا تزيد جسدنا المجتمعي طعنا وتشويها عن ما هو عليه.