في الرابع عشر من هذا الشهر تحل علينا ذكرى اغتيال داعية الحقوق المدنية الأميركي الأسود، القس مارتن لوثر كنغ، فمن هو مارتن لوثر كنغ، وما هي مبادئه؟ وكيف انتصرت بها أميركا على سياسات الحقد والتمييز والكراهية؟
ولد القس مارتن لوثر كنغ العام 1929 في مدينة اتلانتا بولاية جورجيا، واغتيل في 14 أبريل/ نيسان من العام 1968. ويعتبر القس كنغ رائدا ومنقذا وزعيما مميزا في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية في مجال الحقوق المدنية ومناهضة التمييز العنصري الذي تعرض له المواطنون السود بالدرجة الأولى. فقد نشأ في مدينة اتلانتا وعايش فيها مرارة التمييز، وهاله ما كان يتعرض له المواطنون السود من اضطهاد عنصري وإقصاء مبرمج على المستوى الرسمي والشعبي. فقد بلغ الفصل العنصري حدا عجل بالتمرد والعصيان المدني، وما حادث حافلات نقل الركاب إذ تخصص المقاعد ضمن سياسة الفصل العنصري إلا الشرارة التي أطلقت العصيان الجماهيري.
كما يعتبر كنغ من أصغر الحائزين جائزة نوبل للسلام التي منحت له العام 1964 واعترافا بنضاله السلمي ضد التمييز العنصري، وبمساهماته الوطنية التي جنبت الولايات المتحدة الأميركية ويلات التشطير والتفكك الاجتماعي.
واعترافا من الحكومة والشعب الأميركي بعقلانية مبادئه وإنجازاته للوطن فقد خصص يوم الاثنين من كل شهر يناير/ كانون الثاني، وهو موعد ولادته، عطلة رسمية في الولايات المتحدة الأميركية.
مبادئ مارتن لوثر كنغ
للتعرف على مبادئه نسوق هنا بعضا من أقواله التي تعكس المبادئ التي ناضل في سبيلها: «السلام الحقيقي ليس مجرد غياب التوتر، إنه إحقاق العدالة»، «إن ثمرة اللاعنف هي المصالحة وإيجاد المجتمع الحبيب»، «لا حاجة لأي فرد أو جماعة للخضوع للإساءة، ولا حاجة لأي فرد للجوء إلى العنف من أجل رفع الحيف»، «الكراهية تولد الكراهية - علينا مقابلة الكراهية بالمحبة»، «غايتنا ليست هزيمة الرجل الأبيض أو إذلاله، بل كسب صداقته وتفهمه لحقوقنا»، «فلسفة اللاعنف لا تتأسس على الجبن - لن ننصاع لممارسات ظالمة - نبني وسيلة اللاعنف فغايتنا مجتمع في سلام مع نفسه»، «الحرية لا يهبها القامع طوعا بل يجب أن يطالب بها المقموع».
لقد استمد مارتن لوثر كنغ هذه المبادئ السلمية في مواجهة عدم المساواة وسياسة الفصل العنصري من مصادر عدة منها ما كتبه غاندي عن اللاعنف باعتباره وسيلة لمعالجة النزاعات العرقية وتحقيق الإصلاح الاجتماعي، فقوة المحبة واللاعنف عند غاندي (ساتيا غراها) كانت القوة الدافعة لحركة القس كنغ اللاعنفية، وخصوصا بعد زيارته للهند العام 1959 إذ عاد منها أكثر ثباتا على مبادئ اللاعنف.
لدي حلم
تعتبر خطبته المسماة «لدي حلم» من أشهر الخطب التي ألقاها من حيث المحتوى والحضور الجماهيري. فهذه الخطبة الشهيرة ألقاها في أغسطس/ آب من العام 1963 وحضرها حشد جماهيري من المواطنين البيض والسود المناهضين للتمييز العنصري. وقد ألقاها أمام النصب التذكاري لابراهام لنكون باعتباره رمزا للعدالة والمساواة، إذ اقتبس في خطبته كلمات من خطبة ألقاها لنكون العام 1855 والذي بدوره استمدها من وثيقة الاستقلال التي صاغها توماس غرفسون العام 1776 ومضمونها المساواة بين البشر (All men are created equal). لقد آمن كنغ بأفكار لنكون التي تنبذ العنصرية من منطلق حرصهما على وحدة الأمة، فالبيت المنقسم على نفسه، كما قال لنكون، لا يستطيع الوقوف على رجليه. فكلاهما اعتبرا سلامة الأمة إنما تكمن في وحدتها والتي لا تتحقق إلا بإلغاء العنصرية. فقد كان حلم كنغ هو تحقيق مبادئ الأخوة والمصالحة الوطنية، والاستقرار والسلام للأمة عن طريق النضال السلمي. ومن جملة ما قاله في خطبة الأحلام الآتي: «لدي حلم جذوره في الحلم الأميركي، فالحقيقة ظاهرة للعيان بأن جميع الناس خلقوا سواسية»، «إن أبناء العبيد وأبناء مالكي العبيد في سهول جورجيا سيحلون جمعيا على طاولة الأخوة، لدي حلم بأن أبنائي الأربعة سيعيشون مستقبلا في وطن لا يؤسس نظرته لهم على أساس من لون بشرتهم بل على شخوصهم. لدي حلم بأنه في الباما حيث العنصرية البغيضة ستتشابك أيدي البنات والأولاد السود مع أيدي البنات والأولاد البيض كأخوة وأخوات»
منهجية كنغ في مكافحة التمييز
لقد أدرك كنغ أن الوثائق والدساتير ليست الحل الأخير لمعالجة قضايا التمييز والتفرقة العنصرية، فعلى رغم ما تضمنته وثيقة الاستقلال قبل مئتي عام، وما تضمنه دستور الجمهورية من مبادئ المساواة، وعلى رغم مرور مئة عام على إعلان تحرير العبيد، فإن التمييز لم يتوقف إذ خاضت أميركا بسببه حربا أهلية دامية العام 1861 ودامت أربع سنوات، ما دفع بالرئيس لنكون العام 1863 للدعوة إلى العودة إلى مبادئ وثيقة الاستقلال لإنقاذ الاتحاد من التفكك. ولقد هال كنغ ما تعرض له وطنه من تشطير بسبب ممارسات التمييز، فالسياسة الإسكانية مثلا التي تمنع المواطنين السود من التملك والسكن في المناطق المخصصة للمواطنين البيض كانت كافية لخلق مجتمع من الكانتونات الصغيرة المجزأة طبيعيا واجتماعيا، فأحياء السود المفصولة عن احياء البيض يعني عدم اندماج أطفال الطرفين في مدرسة واحدة. فالعزل الإسكاني يعني أن تكون لكل فئة أو عرق مدارسه وأسواقه ومناطق عمله، ما يحد من عملية الانصهار ومن إيجاد ثقافة وطنية جامعة. وإدراكا من كنغ لمخاطر العنصرية على سلامة الوطن ركز في خطبته على خطورة تجاهل الأمة لمشكلة التمييز حينما قال، «لن تكون هناك راحة ولا استقرار في أميركا حتى ينال المواطن الأسود حقوقه الوطنية كاملة، كما حذر من ترك الأمور للأحقاد في مواجهة التمييز، وحث على الانضباط والابتعاد عن العنف والكراهية، مؤكدا أن عظمة الأمة الأميركية لن تتحقق إلا بتبني مبادئ العدالة والمساواة».
من هذا المنطلق تبنى كنغ فلسفة اللاعنف واستخدام آليات النضال السلمي مركزا أنظار الأمة على خطورة التمييز ليخلق وعيا وقناعة بضرورة وحدتها وتماسكها والتخلي عن كل ما يشغلها عن تحقيق رسالتها في مكافحة العنصرية.
لقد أدركت الأمة الأميركية رجاحة فكر كنغ فاعتبرته جزءا من ثقافتها ودرسته في مناهجها التربوية واستخلصت منه دروسا في الوحدة والتقدم الاقتصادي والارتقاء العلمي، واحتفلت بمولده كل عام. وبسبب نضاله السلمي في سبيل إزاحة ممارسات التمييز عن أبناء جنسه لم يتجرأ حتى مناوئوه على اتهامه بالعنصري أو التفرقة ضد الآخر. ولقد تجسدت مبادئ كنغ على الواقع العملي في أميركا فنال المواطن الأسود على اعتراف بحقوق المواطنة الكاملة في العمل والتجارة والتعليم وجميع مجالات الحياة، وتم تطبيق نظام تكافؤ الفرص (EEO) والمحاصصة الوظيفية المبنية على الكفاءة والكثافة السكانية، وهكذا ارتقى المواطن الأسود بمستواه المعيشي جنبا إلى جنب مع أخيه المواطن الأبيض.
إن مكافحة العنصرية بمنهجية اللاعنف وخلق مجتمع المحبة هي أفكار نقيضة للتطرف والإرهاب الذي بات يحصد الأرواح في بعض مجتمعاتنا، والذي جاءت به الأفكار المكارثية من جهة وأفكار الطلبنة، كما سماها الأخ منصور عبدالأمير الجمري، من جهة أخرى.
إننا في هذا الوقت العصيب في أمس الحاجة لمكافحة الأفكار العنصرية الهدامة التي يروج لها مع الأسف في بعض وسائل إعلامنا في استجابة واضحة لسياسة فرق تسد، هذه الأفكار التي تدعو إلى فرض الوصاية على الآخر وتهميشه وإلغاء وجوده، والتي تتفوق في مضمونها على فلسفة التعالي في الفكر النازي. كما أننا في هذا الوقت العصيب في أمس الحاجة للتعلم من تجارب المصلحين كداعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كنغ، كما أننا بحاجة ماسة لاستلهام ثقافة التسامح من أفكار فلاسفتنا كابن عربي حينما قال: «وقد صار قلبي قابلا كل صورة، فمرعى لغزلان، وبيت لاوثان، ودير لرهبان، وكعبة طائف، وألواح توراة، ومصحف قرآن، أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه أرسلت ديني وإيماني. إن فلسفة وتجربة كنغ جديرة بالتمعن والدراسة من قبل الحكومات والشعوب التي تعصف بها أفكار التطرف والتمييز، فهي تقدم إلى العالم نموذجا حيا على جدوى المساواة لتحقيق وحدة الأوطان وسلامة الأمة من الضياع
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 1679 - الأربعاء 11 أبريل 2007م الموافق 23 ربيع الاول 1428هـ