عاد الملف اللبناني إلى واجهة الحدث الإقليمي في الأسبوع الماضي بعد هدوء نسبي جاء بفضل تدخلات واتصالات ولقاءات عربية وإيرانية مباشرة ومداورة. فالتدخلات لم تسفر عن حل ولكنها نجحت في تجميد الأزمة ووقف تداعياتها وتفاعلاتها.
بعد الهدوء المؤقت عادت الرياح المحلية والإقليمية والدولية تتلاعب بأوراق الملف الذي يبدو أنه دخل في طور جديد بعد فشل الوساطات السعودية والإيرانية في التوصل إلى صيغة مشتركة ترضي مختلف الأطراف.
اللبنانيون ينتظرون على مفترق طرق. وهناك منعطفات خطيرة تهدد صيغة الكيان السياسي في حال استمر «حوار الطرشان» وتمسك كل فريق بمطالبه. ويتصادف الحوار المقطوع في وقت تناقش دول مجلس الأمن صيغة بيان رئاسي يتعلق بموضوع القرار الدولي 1701 الذي صدر بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في الصيف الماضي. كذلك يتصادف مع انشغال دول مجلس الأمن بمفاوضات تجري وراء الكواليس لمعالجة مسألة طلب الحكومة اللبناني اتخاذ قرار بشأن «المحكمة ذات الطابع الدولي» بعد فشل الفرقاء المحليين في التوافق على صيغتها.
لبنان إذا لايزال يعاني من تداعيات الأزمة التي تشكلت في داخله بعد توقف العدوان. وما حصل ويحصل في الداخل اللبناني الآن هو نتاج تلك الضربة الموجعة التي وجهتها حكومة إيهود أولمرت للدولة بذريعة مطاردة قوات حزب الله والانتقام من مواقعه وأماكن انتشاره في الجنوب والضاحية الجنوبية في بيروت.
الضربة الموجعة التي أصابت مؤسسات الدولة وأبنيتها السكانية وبنيتها التحتية ساهمت في توليد أزمة سياسية عميقة يرجح أن تستمر فترة طويلة للخروج منها. فالضربة كانت قوية للغاية ومدروسة ومبرمجة. فهي استهدفت المشروع العربي وسياسة البناء والإعمار وأفشلت خطة عودة بيروت لتلعب دورها التقليدي في منظومة الاقتصاد الإقليمي. فالعاصمة اللبنانية بدأت تفقد بريقها من جديد وأخذت الشركات والاستثمارات والأموال بالتحول بحثا عن أمكنة بديلة. وفي حال استمر الوضع على حاله لا يستبعد أن تتفاقم مشكلات البطالة وتزداد كثافة المهاجرين من بلاد الأرز إلى الخارج.
لبنان دخل في فترة غيبوبة منذ نحو تسعة أشهر. ومشكلته العويصة توسعت في تعقيداتها ولم تعد تقتصر على عناصر محلية بقدر ما امتدت إلى الأقاليم المحيطة به لتزيدها اضطرابا وتوترا. والمشاهد التي نراها في ساحات وشوارع ومقرات هذا البلد الصغير لاتعكس أزمة داخلية بقدر ما هي تكشف أو تلخص أزمات إقليمية محيطة به. فالقرار 1701 يتضمن فقرات تتعلق بجوانب تتصل بالصراع العربي - الإسرائيلي والأراضي المحتلة ومسألة العودة وموضوع ترسيم الحدود والعلاقات مع سورية مضافا إليها تلك الاتهامات المستجدة التي تتصل بالأسلحة وتهريب الأسلحة وتنظيم الأسلحة. والمفاوضات الجارية الآن لحسم مسألة «المحكمة الدولية» أخذت تتفاعل إقليميا ودوليا لتنعكس على لبنان وتوازناته الأهلية واحتمال أن تتجه نحو منحدر يزيدها تشنجا.
أزمات لبنان لم تعد محلية الصنع والإنتاج كليا. فهي تدوّلت منذ العام 2004 وأخذت تتدحرج محليا وإقليميا منذ ذاك الوقت حتى اتخذت الولايات المتحدة قرارها وكلفت تل أبيب بتوجيه تلك الضربة العسكرية لكيانه ودولته ومقاومته ومشروعه العربي في الصيف الماضي. فالعدوان فاق التوقع وساهم في زعزعة استقرار البلد وتقطيع أوصاله وقذف بمشكلاته الأهلية إلى ساحته الداخلية. ومنذ الصيف عاد لبنان أكثر من عشر سنوات إلى الوراء وربما يحتاج إلى عشر أخرى حتى يعود إلى ما كان عليه لحظة وقوع العدوان الأميركي/ الإسرائيلي.
مشكلة هذا البلد المغلوب على أمره أنه أدخل عنوة في مسارات إقليمية أوسع من حجمه الجغرافي والسكاني وتفوق قدرته على التحمّل. فهو مطالب بتسديد فواتير الضعف العربي العام وتحمّل مسئوليات تقاعس النظام العربي - الإقليمي وتهربه من المواجهة العسكرية أو المفاوضة السياسية. كذلك أنه مطالب بدخول غرفة العناية وانتظار تداعيات الملفات الإقليمية الأخرى. وبسبب تحوّل ساحته إلى ملعب للتنافس أصبحت البلاد رهينة خطفت لحسابات تتجاوز حدوده ومصالحه. وهذا بالضبط ما أرادته واشنطن وتل أبيب حين اتخذ قرار العدوان عليه في الصيف الماضي. فلبنان بعد الحرب تحوّل الى مستودع لأزمات المنطقة وملفاتها الإقليمية وبات على سكان هذه الساحة دفع الثمن نيابة عن الآخرين والانتظار على قارعة الطريق حتى تحسم المشكلات المعقدة المزمنة والمستحدثة من غزة إلى بغداد.
الداخل والخارج
كل هذه الاعتبارات توضح إلى حد كبير أسباب فشل الحوارات الوطنية وتعطل المؤسسات وعدم قدرة القوى المحلية على التوصل إلى حلول مؤقتة لمشكلاته. فالأزمات حتى لو انصبغت بتلك الألوان المحلية فإنها ليست بالضرورة لبنانية في أصلها وفصلها. فهذا البلد اعتمد في اقتصاده التقليدي على قطاع الخدمات مصدرا للرزق والمعاش كذلك اعتمدت طوائفه ومذاهبه في سياساتها التقليدية على تقديم خدمات مقابل مساعدات لتحسين شروط التفاوض مع الأطراف اللبنانية الأخرى.
لكل هذه الاعتبارات لا يتوقع أن يستقر الوضع السياسي في لبنان قبل أن تتوضح معالم الصورة الإقليمية وتتشكل في ضوء تفاعلاتها وتفاهماتها أو تداعياتها مسودة مشروع لحل مؤقت أو دائم لأزمات المنطقة. الاستقرار والهدوء وعودة البناء والإعمار واسترداد بيروت موقعها ومكانتها وغيرها من نقاط كانت ولاتزال مرهونة بالمحيط الإقليمي وشروط السقف الدولي ومصالح القوى التي تتجاذب الطوائف والمذاهب في بلاد الأرز.
هذا الاستنتاج البائس واليائس توصلت إليه أخيرا مختلف القوى المحلية المتخالفة إقليميا على لبنان بعد مناكفات ومناوشات ودردشات وتبادل اتهامات ومنازعات امتدّت على طول البلاد وعرضها في السنوات الأربع الماضية. فبعد أخذ وردّ انتهت الأطراف إلى معادلة سلبية ترفض من جهة الانزلاق نحو الأسوأ (الاقتتال الأهلي) وتمتنع من جهة التوافق على تسوية مؤلمة وقاسية تنقذ البلاد من حال الجمود والانتظار.
اللبنانيون الآن على مفترق طرق ينتظرون. فهناك ملفات إقليمية تبدأ في إيران (مصير البرنامج النووي) وتمر في العراق (مستقبل بلاد الرافدين في ظل الاحتلال وبعده) وتصل إلى فلسطين ومتفرعاتها ومتفرقاتها اللبنانية والسورية. وهناك أيضا استحقاقات دستورية محلية تبدأ بانتخابات رئاسة الجمهورية التي اقترب موعدها، وتمر في الحكومة وإعادة تشكيلها أو فرطها، وصولا إلى «المحكمة الدولية» وامتداداتها الإقليمية وسلاح حزب الله وموقعه في دائرة الصراع العربي - الصهيوني.
الانتظار اللبناني يقابله التحرك الإسرائيلي. فتل أبيب منذ تجميد حربها على بلاد الأرز نشطت على مستويات مختلفة فهي فتحت تحقيقا بأسباب فشل العدوان وكلفت لجنة لدراسة العثرات والجهات المسئولة عنها. وهي بدأت بمحاكمة الإطراف التي قصّرت في القيام بالمهمات المطلوبة. وهي أعادت تنشيط أجهزتها الأمنية وشبكات المراقبة وقامت بإعادة تأهيل وتدريب وتجهيز قطاعات عسكرية استعدادا لعمليات أو تأهبا لصد هجمات تتوقعها.
«إسرائيل» تعتبر من ضمن حساباتها الاستراتيجية وتحت سقف المقاييس النسبية والتوقعات المفترضة أنها فشلت في الانتقام والثأر وإن تلك الضربة الموجعة التي سددتها للبنان ليست كافية أو على الأقل لم تعط النتائج المطلوبة سياسيا وميدانيا. وعلى أساس هذه القراءة أخذت تحقق وتحاكم وتحاسب الأطراف المتهمة بالتقصير... بينما لبنان الذي تلقى ضربة موجعة لايزال يترنح من تداعياتها السلبية الداخلية حتى الآن ويرجح أن يبقى في غيبوبته فترة زمنية تمتد من ستة أشهر إلى سنتين، فهو لايزال يناقش حكومة الثلث أو الثلثين وينتظر ملفات المنطقة واستحقاقاته الدستورية من دون أن يتخذ الإجراءات التي تتكفل بمنع انزلاقه نحو الأسوأ.
في الأسبوع الماضي عاد لبنان إلى واجهة الحدث الإقليمي بعد هدوء نسبي فرضته تدخلات إقليمية وعربية. والآن دخل من جديد فترة انتظار يحتمل أن تضعه على مفترق طرق يرجح أن تزعزع استقراره ولا يستبعد أن تهدد صيغة كيانه السياسي في حال تم تجهيز عدّة وشروط الصفقة الإقليمية/ الدولية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1679 - الأربعاء 11 أبريل 2007م الموافق 23 ربيع الاول 1428هـ