العدد 1679 - الأربعاء 11 أبريل 2007م الموافق 23 ربيع الاول 1428هـ

نسائي تسكنهن الحيرة ولست زير نساء

عراقي يدخل نساءه وطنا من زيت...جبر علوان:

العدلية - منصورة عبدالأمير وعلي الجلاوي 

11 أبريل 2007

الحوار مع جبر علوان حوار مفتوح على ذاكرة مليئة، حوار مع شخصية أقرب صفة يمكن أن تلصقها بها صفة الجنون المبدع، فمنذ كان في العراق، إلى خروجه إلى روما، كان هذا العراقي مهووسا بالفن، ومنذ تورطه بالنحت، حتى دخوله عالم الألوان الزيتية، مازال تسكن حقائبه المرأة، المرأة المعشوقة والمرأة الصديقة والمرأة التي تقيم في أعماله كسمة واضحة تدل على جبر علوان، غير أن هذا السكن أي اللوحة سكن تحول لدى جبر إلى وطن، يعتقد أنه الوحيد القادر على جعله يشعر بالانتماء، غير أنه يمتلك جوازا بلون واحد، هو لون الغربة، لم يكن الحوار مع جبر عادلا، وليس من المتوقع أن يكون حوارا عادلا منذ البدء، فقد كنّا نحاول فهم الجنون غير خاضع للمنطق، وكنّا نحاول فهم التحولات في شخصية المرأة داخل أعمال جبر، لذلك كان حديثنا معه ضربا من الهلوسة حول المرأة فقط.

المرأة التي تسكن جبر قبل عمله

جبر لماذا نجد الحزن العراقي حاضرا في ألوانك، كأنها علامة كربلائية فارقة، هل هو إطار أم هي ذاكرة تستمدها من ماضيك، توقف قليلا وهو ينظر إلى ما حوله، ويعيد وضع التبغ بين أصابعه ثم قال: ليس في لوحاتي حزن، فقد يكون اللون الأسود الذي أستخدمه لإظهار الضوء، وهو بذلك لون فقط، استخدمه بطرق مختلفة، فمرة للظل ومرات كلون، وأعتبر أن الوجوه في أعمالي ليست حزينة، لأنها وجوه حائرة متأملة، ويسكنها فرح وشيء من قلق.

فالمرأة عنصر أساسي في لوحاتي، وأنا لست أول فنان تشكيلي يدخلها إلى بيت لوحته، المرأة كانت هم الفن التشكيلي كله منذ أيام الإغريق، الذين تناولوها بالنحت، ثم اليونان ثم الإيطاليين، ولذلك كانت أكثر اللوحات في عصر النهضة رمزا لمريم العذراء في الكنيسة. ثم جماليا سار على ذلك الفنانون، والرمز الديني لمريم العذراء كجسد، أصبح موضوعات تعبيرية سار عليها الألمان في التعبير، وأنا داخل اللون أجري بحثي، فعلاقتي بالمرأة واللون والحال السيكولوجية لها.

أتمنى أن أعيش تجربة الولادة

هل لذلك نجد في كثير من الأحيان يد المرأة في أعمال جبر غير مستقيمة، وإذا صح التعبير هي في حال قلق، أو في حال تأمل، نحن قد نقرؤها بصورة مختلفة، فقد نجدها حالة حزن كثير حتى في الجسد... أو هن نساء منكسرات بحسب قراءة امرأة لنساء جبر في لوحاته، فكيف تفسر هذه القراءة؟

ابتسم ثم سحب دخانا كثيفا من سيجارته !، وقال: أنا لا أشعر أن نسائي منكسرات، المرأة مضطهدة لكنها ليست منكسرة، فأنا أرى أن المرأة أقوى من الرجل، حتى في جسدها، فهي قادرة على أن تكون دائما امرأة متغيرة في جسدها، وفي المقابل الرجل لا يتغير، المرأة كل شهر تتغير المرأة هي التي أرضعتني وهي المرأة التي تتحول إلى «حياة»، المرأة تتحمل الألم على رغم أنها لا تمتلك قوة الرجل، أعتقد أن المرأة أكبر من الألم، فالألم قد يتحمله الإنسان، لكن ألم الولادة بالنسبة للمرأة أمر مختلف، وأتمنى أن أعيش هذه التجربة، لكي أكون قريبا من المرأة، فقط للقرب، أنا أحب المرأة كحب كجنس، ولكن حتى أعرفها وأحس بها وأتمكن من الوصول بالتعبير إلى هذه الحال، كل صديقاتي أخبرنني أن المرأة عند الولادة تصل إلى الموت، تشهق ألما لا يمكن أن يوصف، ولكن بعد الولادة مباشرة ترغب في أن تعيد الحالة من جديد. لذلك المرأة كائن من كوكب آخر لم نكتشفه بعد.

نسائي مضيئات وهن أكثر أناقة

لكن ألا يبدو أنك أحببت المرأة الشرقية فقط، لأن أكثر لوحاتك تتكلم عن امرأة ذات شعر داكن أسود، يقاطعنا بطريقة مباشرة ويقول: لا فالإيطالية مثلنا، وهذا لا علاقة له، لأن هذه قضية اختياري للون، لدي كل الألوان، لدي شقراوات، ونسائي قد يكن عكس نساء لوحاتي، وقد يشبهن الأوروبيات من حيث الرشاقة والأناقة.

فكيف تتعرف على نسائك في الواقع وفي اللوحة/ يعيد ظهره إلى الكرسي، ثم يشعل سيجارته قليلا، ويقول: امرأة جميلة رشيقة، فيها شيء من الجمال الذي لا يمكن التعبير عنه، قوية في الوقت نفسه مضيئة، انفعالاتها تأخذها لعالم الوحدة، والوحدة هنا تعني التفكير، فالمرأة في لوحاتي، في هذه اللوحة مثلا رجل وامرأة يجلسان معا، لكن كل منهما في عالمه، لا يوجد ذلك اللقاء، فهو مسترخ وهي تكاد أن تنهض.

وطن من قطعة قماش وألوان زيتية

وصفك عبد الرحمن منيف بأنك الشاهد على زمنك، كيف تكون كذلك؟ وأنت خارج الوطن؟ فهل لديك زمن آخر غير وطنك، غير ذاكرة هذا الوطن؟ يبدو أن السؤال لم يكن مباغتا لجبر، لأنه كان يملك إجابة حاضرة حين قال: الزمن لا علاقة له بالوطن، فالزمن الذي أعيش فيه قادم، زمني هو التكنولوجيا، أزمة الإنسان الروحية، هذا هو الزمن. لذلك لوحاتي تكاد أن تكون مستقبلية، فهي ليست ستاتيك أو ثابتة. زمني هذا هو الوطن، الوطن هو مجرد الذاكرة التي للأسف بدأت تمحى شيئا فشيئا، في بعض المرات أرجع للمنطقة العربية بحكم عدم تمكني من الرجوع للعراق فقد تركت العراق قبل خمس وثلاثين عاما. بالنسبة لي أصبحت اللوحة هي الوطن.

فأين العراق في لوحات جبر علوان إذا؟، وبخفة المنتقم من نكاية الأسئلة يجيب: العراق لون، مجموعة ألوان، أتذكر لون الصيف، لون الشتاء، أتذكر زرقة السماء واخضرار الأرض. هذه الأشياء الموجودة في ذاكرتي للعراق، مجرد ألوان.

عراق جبر علوان مجرد ألوان، وهذه الألوان طغى عليها الأسود والأحمر، فماذا يقول للمتلقي لهذين اللونين في أعماله؟، يطرق إلى الأرض ويطلق ابتسامة ويردف: بعض اللوحات دخلها الأسود، والبعض منها الأحمر، والقسم الآخر ليست كذلك، فأنا أحاول التعامل مع كل الألوان، ولكن في بعض الأحيان الحال تتطلب مني ذلك. ليس لدي تفسير للون، تعلم أن للألوان مدارس كثيرة وتفسيرات كثيرة، كل لون طرح له كل فيلسوف معنى معينا، حتى في علم النفس، أما بالنسبة لي فاللون ما تفرضه الحالة التي أعيشها. هناك قياس داخلي لدي.

ذاكرة خضراء كثوب قروية

جبر علوان ابن الحقول، ولد مع طفولة إذا صح التعبير، قد نطلق عليها طفولة حادة أو طفولة تركت ندوبا حتى على جسد جبر علوان، فحتى عند ما تحول إلى روما، وكان يتجول فيها بدراجته كانت الندوب واضحة على جسده، ألم تبق ندوب من ذاكرة النخيل في لوحات جبر بعد ذلك في روما، أم أنسته روما هذه الذاكرة؟ يعود إلى الاسترخاء ويكمل كأنه غير معني بالسؤال: الذاكرة موجودة، ذاكرة الطفولة موجودة بكل تقلصها، ولكن الإنسان الذي ينظر إلى الماضي بشكل موضوعي، وليس عاطفيا، بشكل العودة إلى الماضي عن طريق الوعي، وليس بشكل عاطفي، وهذا الرجوع هو العودة بشكل واع. إذا لا ينظر لهذه الذاكرة بشكل حنين، إنما كذاكرة فقط، فالذاكرة من الوعي، أما الحنين فمن القلب. وكل شيء من الماضي جميل، لكن إذا نظرنا إلى الأمر على أنه ذاكرة، فسنتذكر اليوم الذي كنّا جالسين فيه في المقهى مثلا، أو المسمار الذي مزق بنطالي، أو أن الريح كانت جميلة، والنهر كان قليل الماء، لكن كانت حوله خضرة كثيرة. هذه هي الذاكرة. الذاكرة موجودة كما قلت سابقا، لكن في إعادة صوغ هذه الذاكرة في اللوحة وأنت موجود في موطن الفن في روما عليك أن تقول أن هذا عملي، مادة اللون من عندهم، ورسم الشخوص من عندهم، وهنا تتساءل «أين أنا» إذا. أين جبر، كل ذلك من عندهم، لكن اختيار درجة لون ليس من عندهم، اللون هو ما يجعل ما يقدمه جبر علوان ليس من عندهم، لأن به روح أخرى، روح شرقية، وهذه هي الذاكرة التي أحملها، وهي العمق الحقيقي لتجربتي.

فهل تتوقع أن اللون الأخضر هو تراث جبر علوان، وهو المعروف في التراث الشيعي وأنت أتيت من خلفيته؟، يقاطعنا بشدة ويقول: كلا، علاقتي بالدين ليست كذلك، نعم كنت متدينا ثم أصبحت وجودي. الأخضر هو النخيل والحشائش المتحولة، التي تكون خضراء في بداياتها، والأخضر هو ملابس النساء القرويات لدينا.

البحرين تدخل قائمة نسائه

ما علاقة جبر بالبحرين، هذه ثالث زيارة له، كأنه إصرار على موقع جغرافي محدد؟، يمد يده إلى قدح القهوة السوداء، ثم يعيد القدح بعد أن احتسى شيئا من مرارته، ليقول: ليس تملقا، لكن هناك شيء في البحرين يثيرني كثيرا، أشياء بداخلي أشعر بها، قد تحفزني، بي شيء قريب منها، ربما إنسانها، سواء رجل أو امرأة قريبة مني، لديه هم، و انفتاح المرأة في البحرين وحريتها شيء مهم. لدي فيها صديقات قريبات من قلبي، شعراء لطيفون، أو قد يكون هناك سر قديم في البحرين، وإلا لماذا جاء إليها جلجامش، البحرين فيها أشياء دفينة أبحث عنها، مثل الماء الذي كان في البحرين قديما، الماء الحلو أين ذهب، بالإضافة إلى أنها مريحة، الإقامة فيها تشعرك بالراحة، وأنا محظوظ أن لدي أصدقاء في البحرين أقرب بلد إلي كناس وكبلد، طبعا أقرب بلد عربي إليّ هي دمشق بعد العراق، ربما لأنها قريبة من العراق، وأذكر سوق الحميدية التي تختزل روائحها وألوانها والفوضى الموجودة فيها، وحتى القذارة فيها، حميمية خاصة لدي. لكن البحرين فيها شيء ما.

حين تكون المرأة حرة فالوطن بخير

دعنا نتحدث عن ذاكرة الأنف، فالرائحة في لوحاتك رائحة حب، ورائحة فعل حب بصورة عامة، كيف تفسر ذلك إذا كانت حقيقة، يعيد إشعال سيجارته المطفأة، وهو ينظر إليها، كانت طبيعية بين أصابعه حين قال: أنا بطبيعتي أحب الحب، وأحب الناس، اعتقد أنه الشيء الذي يبعث على الطمأنينة، نحن من بلدان قلقة، فيها حروب وصراعات، ونقوم بجلد أنفسنا في بعض المرات، هذا بسبب عدم معرفتنا، وكذلك بسبب الحرمان الجنسي. فاعترضنا حديثه قائلين: فهل هذا رد فعل على ذلك؟ لكنه باشر حديثه قائلا: لا أنا أريد أن يكون الواقع جميلا بهذا الشكل لذلك لا تجد لدي لوحات قتل وحروب وتعذيب،/ فهل هي يوتوبيا مدينة فاضلة، هل هذا هو وطن جبر، يهدئ ثم يسترسل في حديثه: وطني هو لوحتي، وأنا آمل من لوحتي أن تكون جميلة، لكن هذا لا يعني أنها لا هموم لها، ولا تفكر، ولا يعني أنها لا تحب الجمال. كل شيء فيها، كل لوحة يجب أن تقدم ذلك. لكن هذا هو الوطن الذي أبحث عنه. نحن نحب المرأة ونحترمها لكن نخنقها، فحين تكون المرأة حرة، أعرف أن البلد بخير.

القلق يتسلق جسد نسائي

هناك ثلاثة ألوان رئيسية قد لا تغيب عن أي عمل من أعمال جبر، هي الأخضر والأسود والأحمر، بتدرجاتهم واختلافاتهم، هل هناك واقع معين أو دلالة معينة، فيمكن أن نقرأ ذلك بصور مختلفة، إذ إن الأحمر قد يكون شهوة أو حبا أو دما. والأسود قد يكون غموضا، وهو بذلك مدى مفتوح، يمكن قراءته على جهة أنه حزن وضيق. أنت تمشي على خط النار بين المتناقضات، بين النهر وبين الجفاف، بين الأيدلوجي وبين الوجودي، هل هذه الصيرورة التي تعيش كقلق داخل جبر؟ هل تنتقل هذه الحال إلى قلق في شخوصه؟ كيف تتعامل معها إذا كانت صحيحة؟، يسرع إلى احتساء شيء من قهوته المرة ويردف: أنا أتعامل مع كل الألوان، ولكن يبرز لون في اللوحة أساسي، مثلا تجد في هذه اللوحة فيها خمسين لونا، ولكن تكتشف أخيرا أن هناك كثافة من الأخضر وراء هذا الجدار، الذي يبدو كجدار بستان، وضوء جميل على تأملها، كأنها في حال شرود، مرات أجعل مساحة كبيرة من اللون حتى تبرز الحالة، لذلك تجد الضوء الذي أسقطه دائما على شخص، أو في بعض الأحيان على المكان الذي يعيش فيه الشخص. اعتراضا لكلامه/ لكن هناك استرخاء بشكل ما حتى في عازفة الكمان، أو المستلقية على الكنبة، أو الواقفة بجنب الجدار، والجالسة مع صديقها أيضا، أو هذا العابر الذي يبدو حزينا في يوم ما فعبر من جنبها. كلهن مسترخيات، فيواصل جبر حديثه مع نهاية جملتنا: مسترخيات ولكن قلقات. في تلك اللوحة التي تجمعها معه هي قلقه، صحيح أنها تصغي له وتنظر إليه، لكنها قلقة. انظر إلى الضوء المسلط على يدها، وأكثر الضوء مركز على كتفها ويدها. هي كتلة تكاد أن تنهض. لكن كل نساء جبر علوان يافعات، يبتسم بدهاء صاحب عمر مفعم، ثم يقول بحكمة: أحبهن كذلك.

لست زير نساء وتزوجت خطأ

هل يمكن أن نعتبر جبر علوان زير نساء؟ كان سؤالا مباغتا، كنّا نستلذ بسؤاله، لأنه بكل بساطة كان أكثر من جرأتنا، إذ انتبه لفريسته جيدا، ثم تحدث بثقة: أنا أحب المرأة، لي علاقات كثيرة ومتعددة مع المرأة. غالبية اللوحات جاءت من تجارب وعلاقات، لكن هذا لا يعني أنني لا أنظر للمرأة الأخرى، بالعكس أنظر إليها بتمعن، ولي كثير من اللوحات لصديقات بمعنى الصديقات. على فكرة لدي صديقات أكثر من أصدقاء، لأنني أحب المرأة، لأنها هي، وأبوح لها بسري أكثر مما أبوح للرجل فبالتالي أجد في صداقتها شيئا جميلا، نبادر جبر بسؤال: فهل وراء كل لوحة قصة؟ فيقول: لا قد يكون وراء كل لوحة حالة، وراء كل لوحة تعبير، للعلم أنا لا أرسم موديلا، حتى المرأة التي لدي معها علاقة جسدية لا أرسمها مباشرة، أحاول أن أرسم من ذاكرتي، فتبقى الذاكرة التي ظلت، أما ما حجم تأثير هذه المرأة في ذاكرتي فهذا موضوع آخر.

فكم من الوقت استغرقت أكثر امرأة بقيت في ذاكرة جبر علوان؟ يفكر قليلا ثم يقول: إثنا عشر عاما، إذا هل تعتبر نفسك مخلصا؟ إلا أنه يطرح تساؤله عن مفهوم الإخلاص نفسه فيقول: وما معنى الإخلاص، ثم كيف نصف رجلا بأنه خائن، ومع من خان، إنه يخون مع امرأة، إذن نحن الاثنين خائنان. حين أخون امرأة أخونها مع امرأة أخرى، مفهوم الخيانة خطأ هنا، ويمكن أن أفسر ذلك على أنه لا يوجد اكتمال في حالة الحب.

والمرأة التي استغرقت اثني عشر عاما منحتني أشياء كثيرة. المشكلة ليست في علاقة الحب، العلاقة تتأثر ليست لأن المرأة لا تحبني، أو لأني لا أحبها، لكن الحياة اليومية التي نعيشها قلقة وصعبة، وحياة الفنان ليست ملكا له، فلا يعرف كم من الوقت يخصصه لنفسه، ولا يعرف كيف يكون مزاجه أثناء الرسم أو ما بعده. قلقه حياته، وغير مستقرة بشكل ثابت أو روتيني من العمل للبيت. حياته قلقة، المرأة في بعض المرات «يهضم» حقها، أنا أعرف نفسي، لا أمنح المرأة ما أمنح اللوحة، وهذا خطأ، لذلك أي امرأة أكون معها أخبرها أن لدي علاقة قوية مع اللوحة، في بعض المرات اقضي ليلي كله مع لوحة، ثم أنام النهار. فإذا كانت المرأة تريد عائلة وأطفالا، فمتى يمكنني منحها الوقت، بالنسبة لي هذه مشكلة تجعل حياتي صعبة.

لذلك لم ينجب جبر علوان؟ فيبادر بالجواب: أنجبت، تزوجت ودام الزواج أسبوعين ثم افترقنا، كان خطأ ففضلتْ الرحيل، ما أريد قوله هو أن الفن يتطلب تضحية كبيرة، وأنا ضحيت لكن بشكل جمالي كما أريد، وقد استمتعتُ، أقوم بذلك عن قناعة، وهو الشيء الذي أشعر أنه الحال الطبيعية، إذ لا يمكنني أن أقوم بأمر عكسه. لكن حتى أصل لهذه المرحلة جاهدت كثيرا، سواء بحياتي الاقتصادية، أو بوطني بأهلي، أو بعلاقتي مع المرأة، لكن الآن أصبحت أهدأ.

مدرس يرسم الناس في ساحات روما

ذهب جبر إلى روما وفي جيبه 100 دولار فقط، وهو مبلغ يكاد يكون مستحيلا، كيف قمت بهذه المغامرة، يشرد كأنه يمعن في تذكر نوافذ تطل على جهة من ذاكرته، ويقول: هي مغامرة جنونية طبعا، لأنني راهنت على هذا الأمر، أحد أساتذتي مهد لي ذلك، وقال لي يمكنك أن تذهب إلى إيطاليا، وترسم في الساحات، تستطيع أن تعيش، فقمت بالمجازفة، لم أكن أعرف اللغة، ولكن فعلا «مشى الحال». عملت وفي الوقت نفسه كنت أدرس. لحد الآن المادة لا تعني لي الكثير، وكان أول عملي هو الرسم في الساحات، رسم البورتريهات. فهل شغلت منصب مدرس، أي منصب ثابت، وتركت العراق لتكون رساما في الساحات، ينقض على إجابتنا: لا لأكون فنانا وليس رسام ساحات.

هل صحيح أنك في بداياتك أردت دراسة النحت؟ فيجيب: صحيح أنا درست النحت، فلماذا تركت النحت بعد ذلك؟، يجيب: لأسباب أولا اقتصادية، لأننا كنا طلبة، وكنت أنام في غرفة صغيرة، أنام وأرسم وآكل فيها، فلم يكن بإمكاني أن أمارس النحت في هذه الغرفة. ثم كانت هناك صراعات بين الأساتذة، وهذا أمر لم أتحدث عنه مسبقا في الأكاديمية، فحين قدمت بعض أعمالي لأستاذي اقترح عليّ دراسة النحت، وبالفعل اتجهت لدراسة النحت، في أثناء دراستي كنت أرسم أيضا فأستاذ النحت قال لي :»أنت ملون جيد»، ثم اتجهت لدراسة الرسم. ودراستي للنحت أثرت في تجربتي، الناقد الحساس يستطيع أن يلاحظ أن هناك كتلا في لوحاتي، هناك كتل ومساحات، هذا ما أخذته من النحت، وهذا ما قاله أحد النقاد الإيطاليين عن لوحاتي.

الجميل أن ابني نحّات الآن، عمره قارب الرابعة والعشرين عاما، يدرس موسيقى كلاسيكية في كونسرفتوار، وهو يعيش لوحده. أنا سعيد به جدا، في حين أنه جيل آخر. قرأ الأدب الألماني كله، والأدب الروسي، علاقته بالقراءة والكتابة والموسيقى، ثم ترك الموسيقى بعد ذلك، ثم تحول إلى النحت وهو جدي أكثر مني، واعذرني لا أحمل صورا في جيبي لأبنائي ولا لنسائي ولا لأهلي.

المرأة علمتني وقالت إني شرقي ومتخلف

جبر علوان دائم الشرود، حتى السيجارة تنطفئ في يديه وهو لا يدري. فهل اللوحة تأخذه من ذاته، فنجده بعض الأحيان مرتبك، وحينا منفعلا، وفي أحيان أخرى لا يلتفت للسيجارة في يده. هل هذا ضرب من الجنون؟ أم إنها شخصية جبر علوان، يذعن لكلامنا عنه، ثم يذهب في التفاصيل بقوله: ما قلته صحيح، لكن لا أعرف لماذا في بعض الأحيان أنسى سيجارتي، في بعض الأحيان وأنا أرسم اللوحة أضع لونا لا أعرف لماذا وضعته، لأن اللون هو الذي يختارني. في اللبس نادرا ما أهتم بمظهري، وإن كنت في بعض الأحيان يعجبني أن أرتدي بهذا الشكل، لكن لا يعجبني أن «أكشخ» بالطريقة الشرقية «البذلة والرباط». يهمني تناسق الألوان على جسدي، كما أحب المرأة التي تلبس ملابس جميلة، أحب واجهة المحلات أن تكون جميلة، وكذلك العمارات أحبها أن تكون جميلة. أحب الشارع نظيفا ومرتبا، ولكن الفوضى الداخلية هي التي تخرج.

ودعني أخبرك بشيء، هناك امرأة في روما غيرت مجرى حياتي، كنت أدعي أنني متحرر، وافهم معنى الحرية والديمقراطية. هذه المرأة قلبتني رأسا على عقب، قالت لي أنت قرأت الكثير من الكتب، لكن في داخلك لا تزال شرقيا ومتخلفا. ومن خلال علاقتي معها علمتني ما هو المفهوم الماركسي، ما هو مفهوم المسرح الجديد، السينما الواقعية الايطالية، المعارض الحديثة. جبر علوان الذي يدعي أنه يعرف الثقافة الغربية، ويدعي إطلاعه على كتبها، في تعامله اليومي هو رجل شرقي. وهذا ما قالته لي، أعادت قراءتي. المرأة مهمة في حياتي، ولولا أنهن كذلك لما قمت برسمهن، والمرأة التي ارسمها هي التي قربتني منها.

العدد 1679 - الأربعاء 11 أبريل 2007م الموافق 23 ربيع الاول 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً