العدد 1679 - الأربعاء 11 أبريل 2007م الموافق 23 ربيع الاول 1428هـ

رجل بطفولة دائمة... ووطن ناقص

جبر علوان... ابن النهر

ضمن فعاليات مهرجان ربيع الثقافة، يستضيف غاليري الرواق للفنون التشكيلية، الفنان العراقي جبر علوان. ولد هذا الفنان بمدينة بابل العام 1948م، تخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد العام 1970م، وتخرج من أكاديمية الفنون الجميلة «نحت» روما العام 1975، متخرج من أكاديمية الفنون روما «رسم» - العام 1978، يقيم في المدينة نفسها منذ العام 1972، له أعمال معروضة بشكل دائم في كل من متحف الفن الحديث - بغداد، متحف الفن الحديث في «كولبينكيان» لشبونة، قصر الجواهر فراره، متحف الفن الحديث دمشق، متحف الفن الحديث - قطر، دار الأوبرا - القاهرة، كما له أعمال مقتناة في كثير من الدول العربية والأجنبية.

قال عنه عبدالرحمن منيف إن جبر علوان طفولة دائمة، تحتمل كل ما تحتمله الطفولة من دهشة واكتشاف، إذ يمكن اعتبار الفن في يد هذا الفنان لعبا وخلقا، غير أن ما يتسرب إلى أعماله من حزن، يجعله عراقيا كاملا وهو ينكر ذلك، وكما قال أبو عادل «مظفر» في إحدى جلساتنا أن الحزن عراقي، وعلى رغم اقتراب جبر علوان من الستين، إلا أن الطفل الذي يسكنه مازال حاضرا، مازال يمارس غواية الفن.

لعل بحث جبر عن شهادة على زمنه، أو شهادة على أشواقه بمعنى أدق -كما يقول هو-، من دون أن يضطر إلى تزييف المعاني، هو بحث يستمر في تحققه من خلال أعماله، في حين هو يبحث عن نفسه كشخص عادي، إذ بلغت نسبة العادي فيه حد العبقرية، فجعلت منه حرية تامة، ووضوح أفصح من حديث، لأنه أصبح الشاهد على زمننا وعصرنا، أصبح الحقيقة التي تشير للجمالي من دون مواربة، وبطفولة دائمة كما يقول منيف.

علوان المصاب بطفولة لا ينوي مغادرتها، يملك ذاكرة ابن الفلاح، الذي مات له طفلان، قبل أن يصل علوان الطفل إلى عتبة الحياة، فيسميه جبرا لقلب أمه «جبر»، وحين سأل والده عن سنة ولادة جبر، قال كما هم آباءنا ولد في سنة غادر فيها السكر بيوتنا، إلا أن الطفل الذي حصل على اهتمام مبكر، من أب فلاح يعرف الحقل عن ظهر قلب، وزوجة تخرج خبز أمومتها طازجا، هذا الطفل يصاب بمرض في فكه، كأنه قدر يتتبع الطفل، ويكمم فمه قبل الكلام، لينتهي به الأمر، علامة على وجنته، هي علامة تشحن ذاكرة جبر بمراحل طفولته الأولى، وهي موضع لمسه حين يحاول أن يتذكر، أو يحاول استعادة ذاكرته، وحين يشرد فتنطفئ بين أصابعه لفافة التبغ. في بداية حياته يصر الأب علوان على ابنه دخول عالم الرجال، منتزعا إياه من طفولته المبكرة، فيتعلم كيفية التشبث بطفولته، لتأخذه قضية كسر رجله، ربما كناية باسمه «جبر»، ما مسح على مشيته عرجا خفيفا، كذاكرة أخرى، مع كي الوجنة، غير أن كسر رجله منحه استعمال الدراجة ذهابا للمدرسة، وهي التي دخلت معه إلى حياته في روما بعد ذلك، فتقوم ثورة يوليو/تموز 1958، لتخضع أرض والده لقوانين الصورة الجديدة، وتحمل ذاكرته مشاهد أخرى، كانت ملازمة للثورة، حين أبصر الفارين بجسدهم العاري من أخطاء الرصاص على جسدهم، يقعون فريسة الخناجر، فيخرون كطيور ترقص من ألم ذبحها. يدخل معهد الفنون الجميلة بمدينة بغداد، ليلفته أستاذ الفنانين العراقيين شاكر حسن إلى السيف والقوس، وجمالية الانحناءات، وأن يعطي وقتا للقراءة، لأن أهمية كبيرة تكمن في ثقافته ومتابعته، فيحب حياة الموسيقيين، ويقضي أوقاتا طويلة مستمعا لهم، فتسللوا إلى أعماله، وسيمتلكون عليه تأثيرا خاصا، سيسهم في بناء لوحاته وقدرتها على التناسق الداخلي، قطعة موسيقية تتسم بالشفافية والترابط ، حينها كان الشعر هواء رئتيه، ومجال قضاء وقته واستمتاعه، ينهي علوان الشاب دراسة بمساعدة أحد إخوته، بعد تدهور وضع والده الاقتصادي، ويعين مدرسا لمادة الفنون في إحدى مدارس كربلاء.

فأنشأ مرسمه الخاص، براتب قدره خمسة وثلاثون دينارا، أحس جبر من خلال مرسمه أنه مستقل، ويمكنه الاعتماد على نفسه منذ الآن، ويصدف أن يزوره أباه عند زيارته للحسين ابن علي، فيعجب بما يبدع الابن، إلا أن هذا الابن يجد في مدينة «كركوك» أملا في الخروج من الإحباط، غير أن هذه المدينة الجديدة لم تغير من نسبة الإحباط لدى جبر، ولم ترض حلمه، وقبل انتهاء السنة الدراسية العام 1972، غادر جبر بغداد وفي جيبه مئة دولار، مسافرا إلى أرض حلمه روما، ليعمل رسام بورتريه في إحدى ساحات روما.

وحين تصافحك أعمال هذا المولع بالنساء، لأنهن أجمل الكائنات، تسأل نفسك، لماذا نجد إرث الحزن العراقي حاضرا في ألوان جبر، كأنه علامة كربلائية فارقة له، هل هو إصرار أم هي ذاكرة؟ وجبر الذاهب بالوطن إلى المنفى، والداخل من المنفى في الوطن كلوحة تستلقي على جدار، أين يجد موطنه، أمازالت الغربة تربط خيوط حذائه؟

كنت أخاف عليه من أسئلتي هذه، وجدتني أخاف من إجابته، فلماذا يريد أن تكون شاهدا على زمنه، في حين أن شهادتنا زور وبهتان أمام محكمة العراق، ومن سيصدقه، وهو أكثرنا ذاكرة؟، جبر الذي تعيد غلق قميصه جميلة اسمها روما، هل أصبحت الصورة تحل مكان لغته العربية، أم أن اللغة ضمن قائمة الانتظار الطويلة أمام تأشيرة دخول؟، لماذا يتأخر دائما، ويترك أعماله مفتوحة على التأويل، لماذا يفرض المطلق مداها، ألا يخاف من العبثية، أو تغريه بالمقابل الدادائية؟ وأين تختبئ ذاكرة ابن النهر والحقل؟، كل تلك الأسئلة كانت تسبقنا ونحن نصافح يد ابن النهر في صالة الرواق.

العدد 1679 - الأربعاء 11 أبريل 2007م الموافق 23 ربيع الاول 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً