لا أريد أن أتحدث في هذا المقال عن مفهوم الليبرالية عند أصحابها الذين أوجدوها ونادوا بها وعنهم أخذه الليبراليون الآخرون في العالم كله إذ اقتنعوا بتلك المبادئ وأصبحت علامة بارزة في حياتهم تميزهم عن الآخرين وأصبحت أيضا تلك الشعارات التي نادى بها الليبراليون الأوائل هي شعاراتهم حيثما كانوا وفي أي بلد كانوا.
كما أنني لا أريد الحديث عن علاقة الليبراليين الذين ينتمون للإسلام بالإسلام دينا إليها ومدى قناعتهم بهذا الدين وحجم اختلافهم معه ولماذا يختلفون معه. فهذه القضايا وسواها لا يحتملها مقال واحد ولعل الوقت يسمح بطرقها في المستقبل إن شاء الله.
الشيء الذي أود قوله - في البداية - إن هناك اختلافا جوهريا بين الليبرالية باعتبارها مذهبا فكريا له جذوره وأصوله المعروفة وبين بعض من يدعي الليبرالية وهو يخرج في بعض أفعاله عن أصول مذهبه الذي ينتمي إليه، وهؤلاء مثل بعض الشيوعيين العرب الذين يؤمنون بالله مخالفين جذور مذهبهم أو مثل بعض اللصوص الذين يحرصون على تلاوة بعض الآيات وقراءة بعض الأدعية لكي يسهل الله لهم إتمام عملهم بنجاح!
الذي أظنه أن البيئات التي يعيش فيها أولئك القوم هي التي تؤثر على سلوكهم وعقائدهم بدرجات متفاوتة وهذا هو الذي يجعلهم يخرجون على مبادئهم أحيانا بصور متباينة.
سأتحدث - فقط - عن بعض المفاهيم التي كنا نحسبهم جميعا وفي كل الأقطار العربية متفقين عليها ويبذلون كل شيء من أجل تحقيقها ولا يختلف أحد منهم عليها وهي المناداة بالحرية لكل شعوب الأرض فضلا عن الشعوب العربية التي ينتمون إليها.
ومرت أوقات ليست بالقليلة كانت تهمة العمالة والخيانة تلاحق كل من يتصل بالمستعمر - سرا أو علنا - بأية صورة من صور الاتصال، أما قبول الاستعمار وتمجيد أفعاله فتلك جريمة كل أنواع العقوبات لا تكفيها.
الليبراليون العرب - بحكم معتقداتهم - كانوا ضد الإمبريالية وضد الاحتلال ومع المقاومة المشروعة ولكن بعضهم اليوم يضع يده في أيدي المستعمر ويدافع عن مشروعاته وينظر إليه بإعجاب كبير ويسخر من المقاومة ولا يراها مشروعة ويطالب الشعوب العربية بالركرع - أو السجود لا فرق - للمشروعات الاستعمارية حتى لو كانت هذه المشروعات في بلده!
هؤلاء الليبراليون قتلوا المبادئ الجميلة في معتقدهم ولكنهم قبل ذلك قتلوا كل الأعراف والقوانين الدولية التي كانوا يرددونها ويتكئون عليها في كل أدبياتهم المعروفة.
الليبراليون الذين أتحدث عنهم يرون مقاومة المحتل في العراق إرهابا لا يجوز التفكير فيه فضلا عن ممارسته، وهؤلاء يسبّحون بحمد الأميركان قياما وقعودا ويرون أفعالهم في العراق جميلا لم يسبقوا لمثله والويل كل الويل لمن يخالف آراءهم.
وبطبيعة الحال تتكرر نظراتهم نفسها لما يجري في فلسطين، وما جرى في لبنان أثناء الحرب ضد حزب الله، ومن البدهي أن تكون هذه نظراتهم لكل احتلال أميركي قد يقع في أي مكان كان. بعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير فبدأ يبحث عن رأي من هنا أو فتوى شاذة من هناك - في أي عصر وفي أي مصر - تسوغ الصمت على الاحتلال وبدأ - هذا البعض - بتسويق هذا اللون من الفتاوى وكأنه وجد ضالته المنشودة في هذه الفتاوى التي لا تنطلي على أحد.
هذا - البعض - ينتمي للتيار الليبرالي الإسلامي! على طريقة الشيوعي المسلم واللص التقي وما أشبه ذلك من المواصفات التي انتشرت هذه الأيام وحار كثير من الناس في فهمها ومعرفة أسرارها.
الليبراليون الجدد بدأوا ينادون بالتمحور على الذات فما يجرى خارج بلدهم لا يعنيهم في شيء - فالمهم الوطن كما يقولون - وليس تبني الدعوة لحرية الآخرين... فمثلا احتلال فلسطين لا يعني لهم شيئا، ومقاطعة المحتل نظرية تافهة، وكأن العروبة والعرب الآخرين لا ينتمون لهم بصلة وكأن هؤلاء انقرضوا من قواميسهم السابقة.
ليت هؤلاء يدركون أن الحياة أخذ وعطاء فإذا لم يقف هؤلاء وسواهم مع الآخرين ضد أي احتلال أو أقل من ذلك فلن يقف معهم أحد إذا احتاجوا إليه عندما تقع بلادهم في مأزق كالذي وقع فيه أولئك القوم.
والطامة الكبرى أن هؤلاء الذين أتحدث عنهم لا يرون بأسا من احتلال بلادهم لأن هذا الاحتلال - وهم يعطونه أسماء أخرى - سينقلهم نقلة حضرية هائلة هم في أمسّ الحاجة إليها. ولك أن تعجب كيف يكون الاحتلال جميلا في عرفهم إلى هذا الحد! ولك أن تعجب أكثر كيف يتعامون عما يحدث في العراق وفلسطين وأفغانستان بل وفي كل بلد محتل قديما وحديثا!
وطامة أخرى يلوكها الليبراليون الجدد ألا وهي السخرية من تاريخهم وبطولاتهم السابقة وكأن هذا التاريخ المجيد أصبح عارا يأنفون منه وربما - أقول ربما - كان الواقع العربي المؤلم وراء تنصلهم من تاريخهم، وتناسى هؤلاء أنهم شاركوا في صنع هذا الواقع كما تناسوا أيضا أنهم مسئولون كغيرهم عن إصلاح هذا الواقع وليس الهروب إلى الأعداء وتمجيدهم وترك واقعهم مؤسفا كما هو، من دون أية محاولة لإصلاحه.
ومن غرائب ما يذهب إليه بعضهم تمجيد قتلى الأميركان في العراق والتباكي عليهم وصب جام الغضب على الوحوش الإرهابيين الذين قتلوا الغزاة وأرهبوهم! الغزاة ملائكة الرحمة جاؤوا لتقديم الحرية للعراقيين - ومثلهم الأفغان طبعا - فكيف يقوم هؤلاء الوحوش بإيذائهم؟
الأميركان - كما يقول الليبراليون الجدد - قدموا تضحيات هائلة للعراقيين - مادية وبشرية - فكيف يسوغ لهؤلاء قتالهم؟ ولماذا لا يصبر العراقيون على دمار بلادهم وتشريدهم مقابل تلك الحسنات الهائلة التي يقدمها لهم الأميركان؟
الليبراليون الجدد يتحدثون عن الإرهاب الفلسطيني وكأنهم لا يرون الإرهاب الصهيوني كل يوم وبكل الطرق المؤلمة.
هؤلاء الليبراليون صورة ممسوخة عن الأميركان الغزاة، وإذا كان للأميركان ما يبرر أفعالهم من وجهة نظرهم الاستعمارية فكيف نستطيع أن نتفهم وجهة نظر الليبراليين هؤلاء؟
لقد خرج هؤلاء على مبادئهم بل وقتلوها وانقلبوا أبواقا للمستعمرين وأفكارهم وأبواقا لدعاة الاستغراب فأصبحوا صغارا عند الآخرين ولعلهم صغار عند أنفسهم.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1677 - الإثنين 09 أبريل 2007م الموافق 21 ربيع الاول 1428هـ