العدد 1677 - الإثنين 09 أبريل 2007م الموافق 21 ربيع الاول 1428هـ

عولمة تركيا وعَلمانية العرب

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

عشية زيارة رئيس الوزراء الكويتي تركيا في الأسبوع الماضي، كان رئيس وزراء تركيا يحضر مباراة كرة قدم بين فريق تركي وفريق سوري في حلب (شمال سورية). هكذا هي العلاقات التركية العربية قريبة إلى درجة غير مسبوقة منذ النصف الأخير من القرن الماضي، فتركيا اليوم إلى جانب مساهمتها في القوات الدولية في جنوب لبنان، واستعدادها للدخول في السوق الأوروبية المشتركة، على ما يتطلبه ذلك الدخول من مواقف سياسية منسجمة مع المنظور العام لأوروبا، هي عنصر فاعل في قضايا الشرق الأوسط، سواءٌ أكانت إقليمية أم بينية بين طرفين عربيين، كلبنان وسورية، وتكسب أرضا أكبرَ في المشاركة في هذه القضايا عمليا كما تستقبل على أنها شريك في موضوع العراق وفلسطين وإيران، إلى درجة أن الرئيس المصري قبل أسابيع قليلة وقّع مع تركيا اتفاقا استراتيجيا للتعاون بين البلدين. فتركيا أصبحت محورا للعملين السياسي والاقتصادي في المنطقة.

العرب المهتمون بالسياسية نظروا إلى التجربة التركية بعين الإعجاب من زاوية قدرتها على التطور السياسي تحت سقف التراث الإسلامي (لكون الحزب الحاكم له هذا التوجه) ولكن أيضا من دون المساس بالدستور العَلماني التركي. واسم الحزب هو اسم محايد «العدالة والتنمية». بالتأكيد مثل هذه التجربة من المنظور السياسي بمقارنتها بالتخبط الحاصل لدى كثيرٍ من العرب في تجاربهم السياسية تلفت النظر وتستحق الدراسة.

إلا أن تشريح التجربة التركية من الداخل والحديث إلى المتخصصين يظهران الوجه الآخر للعملة، وهي صورة مؤثرة ليس في محور السياسة، ولكن الأهم تأثيرها في محور الاقتصاد، وهو بيت القصيد ومربط الفرس في تطور الشعوب اليوم.

الصورة السياسية هي ليست كما تبدو من الخارج، فحزب أردوغان الحاكم ليس حزبا دينيا. إنه ائتلاف فيه من الليبراليين والقوميين؛ ما يجعله ائتلافا كبيرا يمثل أطيافا مختلفة من الشعب التركي، وما فيه من التوجه الديني تراثي وقيمي أكثر مما هو تطبيقي كما يريد البعض أن يقوم به في أماكنَ أخرى. هذا الائتلاف سببُ نجاحه السياسي النسبي حتى الآن أنه قدم إلى تركيا ما تحتاج إليه دولة كي تنهض، وهو الاستقرار والشفافية في الحكم في الوقت نفسه وبالتزامن، وهي معادلة دقيقة. أما قاعدة النجاح التركي فهي الاقتصاد. حتى تسهل المقارنة، فإن عدد سكان تركيا اليوم يماثل تقريبا عدد سكان بلد عربي مثل مصر. طبعا تركيا جغرافيا أكبر من مصر، وأراضيها أكثر تنوعا في مصادر الثروة. إلا أن تركيا تصدّر إلى العالم اليوم 8 مرات ما تصدره مصر على سبيل المثال. ومن جهة أخرى، إن معظم صادرات تركيا تتوجه إلى أوروبا، وهو دليل على أن صناعة تركيا هي صناعة منافسة في سوق كبيرة وحريصة على مستوى البضاعة التي تقدمها إلى جمهورها، ودليل آخر على أن الصناعة التركية قد أجادت موضوعين، الأول: الحرص على الجودة والثاني: الدخول في المنافسة السعرية، وكلاهما يقدمان الصناعة التركية على طبق من ذهب إلى الأسواق العالمية، ويجعل دخولها السوق الأوروبية المشتركة - إن حدث - فوزا اقتصاديا ضخما للشعب التركي.

مجال آخر اكتشفته مؤسسات الأعمال التركية، هو بعدها الإسلامي، واستفادت منه فقد نما تصديرها؛ ما جعل الليرة التركية - بعد تذبذب طويل - تتطاول مساواتها بالدولار الأميركي وتستقر.

ليست هناك معجزة في التجربة التركية، بل هناك فقط تصميم من قيادة تعرف ما تريد وتفعله علنا وبشفافية، حتى لو كان المطلوب بعض القرارات غير الشعبية في المدى القصير. تتخذ تلك القرارات على أساس أن لها مردودا اقتصاديا في المدى المتوسط والبعيد. إنها ديناميكية جديدة في تركيا رفعت الاقتصاد التركي من حال التذبذب التي كانت سمة مستمرة له إلى مرحلة الاستعداد للقفزة الأكبر وهي دخول السوق الأوروبية المشتركة.

ليس كل ما في تركيا صورة وردية على رغم القفزة الاقتصادية في السنوات الثلاث الماضية وهي قفزة بكل المقاييس ملحوظة وكبيرة، إلا أن تركيا مثلها مثل الشعوب القديمة تموت لديها الأفكار الراسخة ببطء. هناك أولا: القومية التركية التي هي مقياس لما يمكن للأفكار أن تفعل في تقدم الأمم إلى الأمام أو مراوحتها المكان. وتتدخل القومية التركية مُعوِّقة من جهتين، الأول: ما له علاقة بقبرص التركية، وذلك موضوع تاريخي لم تستطع الحكومات التركية أن تقدم إليه حلولا عقلانية حتى اليوم؛ بسبب ما يربط أتراك قبرص بالوطن الأم من شعور قومي، والثاني: موقفها من الأقليات التي تشاطر الأتراك أرض الوطن، وخصوصا الأكراد، فقضية هؤلاء تشكل مجالا آخرَ في إعاقة التطور السياسي في تركيا وعلاقتها بالآخرين، من منظور حقوق الإنسان والمساواة وبسبب طغيان الفكر القومي على السياسة الداخلية، يبرز عدم قبول التعددية العرقية والثقافية حقيقة من حقائق العصر معوقا للتقدم التركي. هذان السببان يعوقان نهوض تركيا كما يجب، ولو تخففت من هذين العاملين لأصبحت لتركيا القدرة على ولوج العولمة بشكل أسرع؛ ما يحقق نهضة تاريخية للبلاد.

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1677 - الإثنين 09 أبريل 2007م الموافق 21 ربيع الاول 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً