تماما وفي الاتجاه المعاكس لسوق الأسهم الخليجية التي تشهد انحدارا وتذبذبات مخيفة تزعج المتعاملين فيها، فإن العلاج بالقرآن وما يصطلح على تسميته بالرقية، يشهد انتعاشا حقيقيا في الخليج، ففي الوقت الذي تعلن فيه الجهات الرسمية عبر الصحف والجرائد اليومية القبض على العشرات من العاملين في هذه الخدمة، والمتحايلين عليها من خليجيين وعرب وأفارقة وغيرهم، لا تزال الساحة الخليجية اجتماعيا تنبئ عن قدرة لا متناهية في استقطاب هؤلاء الذين يعالجون ما استعصى من الأمراض (كما يقولون).
هكذا وبشكل أسرع من المفاجئ تصعد حسابات المعالجين بالقرآن بنسق صاروخي، ليتحولوا بين عشية وضحاها إلى أثرياء ومقتدرين ماليا، وإن لم تظهر تلك الأموال على سكنهم أو على موديلات سياراتهم حفاظا على حال القداسة والزهد التي يفضلون الظهور بها أمام الزبائن المتهافتين والمتعبين من الحياة.
لن أتجه في مقالي هذا لهؤلاء الذين يمارسون هذه المهنة فهم إما صالح هدى مؤمن خائف من الله سبحانه وتعالى، وأمثال هذا النموذج قلة ونوادر (وما تحمله ذاكرة الناس عنهم أنهم نفعوا ولم يضروا أحدا) وإما بارع متمحض في الكذب والنفاق والمتاجرة باسم الدين والقرآن، وهؤلاء هم الفساد وهم الشيطان وهم النار على مجتمعاتهم.
مجموعة كبيرة من التقارير والتحقيقات والاعترافات التي سجلتها صحفنا الخليجية، تكشف بعض الجوانب في حياة هؤلاء البارعين، وتكشف لنا من دون أدنى شك أو ريب ما يعانيه هؤلاء من الفشل الدراسي والتدني في المستوى العلمي والثقافي، الذي يصل أحيانا إلى عدم قراءة آيات القرآن الكريم بشكل صحيح، ناهيك عن الانحطاط السلوكي والأخلاقي والانتقامي الذي يمارسونه مع ضحاياهم من دون أدنى رحمة أو إنسانية.
سأدوِّن هنا رأيا في مطوياته بعض الملاحظات المتناثرة، مع كل الأمل والتأمل في استعداد الذهنية الاجتماعية والرسمية للتفكير والمساهمة في وضع الإرشادات وتلمس الطريق الذي يمكننا به أن نحمي أهلنا من مخاطر هؤلاء الذين يعالجون بالقرآن، وهم أبعد ما يكونون في حياتهم وسلوكهم عن تعاليم القرآن.
تراخيص عمل
في الخفاء تماما، وفي البيوت القديمة والأحياء المهجورة والشقق المستأجرة، يمارس غالبية المعالجين بالقرآن مهنتهم، هناك حيث لا رقابة ولا عيون ولا وضوح ولا قانون، يصل ضحايا الوهم والخرافة متسللين ليوقعوا أنفسهم في المسالك المظلمة والطرق المنحرفة، وستبقى الحال هكذا مهما راهنت الصيحات والصرخات على الوعي الاجتماعي، ما يعني ضرورة أن تساندها وتساعدها الجهات الرسمية في وضع الحلول.
أتصور (غير قاطع) أن أول الحلول هو استحداث إجراء أو قانون أو قرار يسمح بمنح تراخيص لممارسي هذه المهنة، لتخضع لقوانين صارمة ولرقابة وتفتيش ومتابعة، وان يتعامل معها كما يتعامل مع أي مهنة، فهنا شروط لمكان العمل، وساعات العمل، والملفات الخاصة بكل شخص، فيها نوع الشكاية وما وصف لها من علاج وما دفعه الزبون مقابل ذلك إلى آخره من القوانين التي تكشف الغموض وتحمي الناس من سلبيات هذه المهنة.
الواقع يقول إن أعداد هؤلاء الممارسين لهذه المهنة في تصاعد، والتغافل عن هذا الواقع لا يعالجه، ولا يمنع من استشرائه وزيادة عدد ضحاياه، ومادامت مهنة العلاج بالقرآن سلاحا ذا حدين، فإن ترسيمها وشرعيتها حكوميا يمكن أن تحد من سلبياتها وأخطارها، وخصوصا حين تتعاهدها جهة تمتاز بالعقل والدين والخوف على أعراض الناس وأديانهم.
إن أقرب مثال يخطر ببالي هو مهنة الحجامة (إخراج الدم الفاسد من الجسم) فبعد أن كانت مهنة تمارس في ظروف سيئة، وتتسبب في الكثير من الأمراض والمشكلات الصحية لزبائنها، أصبحت الآن مهنة تمارس بإجازة رسمية في بعض الدول ويحاسب كل من يمارسها خارج النظام والقانون.
مضافا الى ذلك ان ترخيص هذه المهنة يمكّن من ضبط بعض تفاصيلها، وبالتحديد ما يرتبط بالجانب النسائي، فغالبية الذين يلقى القبض عليهم (كما تبيّن ذلك صحفنا الخليجية) لا يخلو أمرهم من علاقات غير شرعية مع النساء، وربما تصل الحال بهم حد الابتزاز والمتاجرة والركض وراء الثراء على حساب أعراض الناس وكرامتهم.
لعلنا جميعا نعلم أن بعض (وأكثر) الذين يمارسون العلاج بالقرآن يستخدمون هذا الاسم كشبك يصطادون به فرائسهم، ويشبعون به رغباتهم المحرمة. كذلك يمكن لترخيص هذه المهنة أن يجعل حدا للطلبات المالية التي يطلبها المعالجون بالقرآن، والتي تبدأ من الألف ريال وتصل إلى عشرات الآلاف من دون ضابطة أو قانون، مع أن ما يقابلها هو كتابة بعض الآيات وقراءتها على المريض.
إن هذا الابتزاز المالي الذي يندفع إليه الناس تحت ضغط الوهم، قد وصل إلى مستويات لا تكاد تصدق، ولن نتمكن من السيطرة عليه وقضية العلاج برمتها في سرية تامة ودهاليز مظلمة.
إن الحديث عن ترخيص مثل هذه المهن لا يستبطن تطبيعها في نفوس الناس، بل لابد من تبصير الناس بأخطار هذه الأعمال وما وراءها من شعوذة ودجل، وان يستمر العقلاء والعلماء والمثقفون في إرشاد الناس إلى سلامتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، كما إن عدم إدراج هذا العمل تحت تصريح رسمي وتجاهله لن يعني نهايته وانحساره فقد نقلت «العربية نت» على موقعها بتاريخ 10 أغسطس/ آب 2006 تقريرا عن الدجل في مصر قالت فيه: «إن عدد أولئك المشعوذين بات في ازدياد مطرد وقدرت أعدادهم حاليا بأكثر من 300 ألف ينتشرون في أنحاء البلاد كافة».
إن السلامة كما أعتقد هي في ترخيص هذا العمل وضبطه، وقمة الضبط هو حين تربط التصاريح والرخص بممارسة هذه المهنة ضمن المجمعات الطبية الكبيرة، والعيادات النفسية المعروفة.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1676 - الأحد 08 أبريل 2007م الموافق 20 ربيع الاول 1428هـ