كانت لدعوة رجل الأعمال البحريني الأخ العزيز خالد الخاجة لحضور مأدبة العشاء التي أقامها في منزله يوم الأربعاء الموافق 4 أبريل/ نيسان الجاري أطيب الأثر في النفس، وذلك نظرا الى ما أكنه له من عظيم احترام وتقدير لكونه أحد أبرز السباقين القلائل في الساحة المحلية على عقد وتنظيم اللقاءات الوطنية المفتوحة التي تحضن في أجوائها الحميمية جميع الأطياف والشخصيات الوطنية، وذلك منذ بداية مرحلة الانفتاح السياسي حينما استضاف في مجلسه الرمز الوطني والراحل الكبير الشيخ عبدالأمير الجمري (رحمه الله) في مجلسه، مثلما نظم لقاءات مصالحة وطنية مفتوحة بين أبرز أقطاب ورموز الطائفة الشيعية وأهل السنة والجماعة.
وأذكر أنني سبق وأن لبيت من قبل دعوة الأخ العزيز خالد الخاجة لحضور لقاء يجمع عددا من الأصحاب والأصدقاء عند منزله بمنطقة «المقابة»، وكان ذلك أثناء موسم الفعاليات العزائية بشهر محرم، حيث مازلت أذكر مواكب العزاء الحسينية وهي تجوب أركان قرية المقابة، وتتوقف أمام منزل خالد الخاجة في مطلع ومبسم القرية المتلألئ بمثل هذه اللقاءات الشعبية على كلمة سواء وطنية موحدة، إذ يباشر صاحب المنزل التضييف بنفسه، والذي لا تكاد أن تجده جالسا ومحدثا بقربك لفرط انشغاله بواجبات الضيافة الأصيلة وتولي سقاية تلك المواكب الحسينية والإشراف على ما يقدم إليها من ماء بارد وشاي بغدادي «مخدر» لذيذ يتم إعداده على «مناقل» الفحم، وتقديمه لعامة الحضور، بالإضافة إلى عدد من الأغذية والحلويات الخفيفة التي تستقبل من أضناهم طول الطريق، ومن أرهقتهم جسديا وفيزيائيا فعاليات مواكب العزاء الحسينية من صبية وشباب وشيوخ كبار، فلا يتملكك يا أخي القارئ العزيز إلا أن تبدي إعجابك واعتزازك بأمثال تلك المشاهد الوطنية المهيبة.
ولعل أيضا ما أكسب هذه الدعوة وهذا الاجتماع الوطني إضافتهما العالية، وبريقهما المستحق هو كونهما أتتا في ظل ما تعاني منه البلاد ومجمل المنطقة من هبوب رياح الطائفية الصفراء المتربة والمرمدة إلى حد تدمى فيها العيون والمآقي الوطنية ولا تدمعها فقط!
وأمثال هذه الدعوات واللقاءات الحميمة تأتي بعفوية وتلقائية شعبية معروفة لدى هذا الشعب الطيب الأصيل رغما عن أنف استفحال أنشطة الانتهازية السياسية التي تقودها بعض التيارات المتسيسة على حساب الوطن وأبنائه والمصلحة العامة، حيث تحتد مؤسسات وأجهزة واستراتيجيات التشطير العمودي في تأدية وظائفها المناطة بها لتكريس فرضية «فرّق تسد» على أرض الواقع، عوضا عن فرضية «صالح واجمع على قلب واحد تسد محبة الجميع وتكسب رضاهم»، وهي بادرة طيبة لا ولن يفهمها إلا الحكماء و «الأجاويد» الغيورين على مصلحة الوطن!
وقد تميزت هذه المرة مأدبة العشاء الكريمة التي أقامها خالد الخاجة، والتي دعا إليها عددا من النواب والوجهاء والدبلوماسيين في البلد، بالإضافة إلى نفر كريم من أهل «المقابة» والمناطق المجاورة، بزيارة زعيم الصوفيين في البحرين الشيخ راشد المريخي ورفاقه، والذين أحيوا أمسية دافئة وزاكية في مديح سيد البشر وأفضل الخلق أجمعين وخاتم الأنبياء والمرسلين حبيبنا وسيدنا محمد (ص)، وقد أنشدت أصوات صافية وشجية باقة من أروع ما قيل في مدح سيد البشر (ص) بما فيها قصيدة «ولد الهدى».
وبعد الإنشاد أتى الإرشاد، كما أعلن ذلك الشيخ راشد المريخي حينما انطلق في خطبة عصماء استهلها بمهاجمة وعتاب ساخن للجهة الرسمية المختصة والمتسببة في إلغاء العادة السنوية بالاحتفال العام بالمولد النبوي وبالتالي تعمدها إفساد الربيع هذا العام، وتطرق بعدها إلى الأحاديث والآيات والنماذج التاريخية المبينة لفضل مديح النبي والصلاة عليه، واستعرض موجبات المولد النبوي الذي لا يمكن أن يخلو ولا يمكن أن يشمل إلا مديح النبي والصلاة عليه، فما الذي يجعل منه إذا في عرف البعض أمرا شائنا ومدعاة للتهكم وللازدراء؟!
وما أن انتهى الشيخ الجليل من إلقاء خطبته العصماء حتى حظي بإشادة وتثنية الحاضرين «أحسنت»، «بارك الله فيك»، «صح إلسانك» وغيرها من عبارات التقدير، وقد تركت تلك الخطبة الرنانة عظيم الأثر والتأمت بواسطتها كثير من الشوارد العقلية والذهنية حول المولد النبوي، وأثره التوحيدي البليغ لعموم المذاهب والطوائف والجماعات الإسلامية الكريمة التي تجتمع على مديح سيدها وسيد البشر والصلاة عليه، وإلا فما الذي يجعل منا أصلا مسلمين إن لم نوحد خالقنا، ونوفي صاحب رسالة الهداية أقل حقوقه علينا من مديح وصلاة، وهو الأمر الرباني الذي أوجبه وفرضه علينا خالقنا عز وجل؟!
أي خير في أمتنا يرتجى بعد ذلك، طالما أنها لم توفِ لسيدها وقائدها وصاحبها وقائدها وموحدها الإيماني والكياني والوجداني الأول أبسط حقوقه، ولم تتجمع قلوبها وتصفى بمعين ونقاء محبة رسولها الأعظم؟!
وأي أخوّة وسلام ومصالحة حقيقية يسعى إليها بين معاشر إخوة وأشقاء وفرقاء انبثوا وانسربوا في مسالك الدنيا من صلب قيمي واحد إن لم تكن هذه الأخوة والسلام والمصالحة متفجرة في أحضان العرفان والمحبة والمديح للنبي (ص)؟!
أفليس بـ «مدْحِ المصطفى تَحيا القلوبُ/ وتُغْتَفَرُ الخطايا والذُّنُوبُ» كما جادت بذلك القريحة الشعرية الصافية للإمام البوصيري؟!
لو طرحت مثل هذه الدعوات علَنا كما هو الآن، فقد يفهمها بعض الغلاة والمتقرحين سياسيا بأنها تفلسف هرطوقي، وخروج على صحيح الدين المفصل في نجد فقط، لا في مكة المكرمة والمدينة المنورة وغيرها من حواضر مدنية إسلامية عالمية؟!
أو هي مبالغات وإفراط وتفريط ممطوط، لدى البعض، في المدح والتقديس لشخص النبي الأعظم، وقد يثير الريبة ويفسد قويم العقيدة الوحدانية، على رغم أن هذا البعض قد يبالغ ويزيد على ما ذكر في مدح سيد البشرية ليكيله لولي الأمر، عسى أن ينال بذلك شيئا من «حلاوة» أو «عقار» أو «خيشة» أو «كاب عيش»، وهم يعلمون، فذاك وحده من صواب وقويم الدين، وليس أبدا «وثنية جديدة»!
ولربما فُسِّرَت هواجسي وأفكاري على أنها تزكية للتيارات الصوفية عن غيرها من تيارات إسلامية، فتكون بالتالي دعوة مني ضائعة لاعتزال كل الولاءات والانتماءات والتأويلات للانضواء تحت لواء التيارات الصوفية المختلفة، على رغم أن ذاك من شأنه قتل التعددية ورحابة المفهوم ومصادرة التأويلات الأخرى، وطرد الرحمة الاختلافية شر طردة!
أو ظن بعض مخالفي ومخاصمي الشيخ الجليل راشد المريخي بأنني أدعو في مقالي هذا الى تزكيته على غيره حتى يكون إماما حجة، وخليفة منتظرا يتولى أمور المسلمين، أو قائدا ينهض بتوحيدهم وطنياَ؟!
ولكن هذه الدعوة أتت بقلب صادق، وبإحساس مخلص أولا لتجديد البيعة الدينية لصاحب الرسالة وسيد البشرية (ص)، ولإيقاف تحول الاختلافات إلى خلافات واحترابات، وثانيا لإنقاذ كل هذا التشتت والتشظي في أكناف الروح الوطنية العالية لا أكثر ولا أقل، فليتوحد الجميع وطنيا عند مولد نبي المحبة والسلام على الأقل، وليخففوا بعض الشيء على كواهلهم من فرط ثقل المصالح، ومثل هذا التآخي ليس بدعة وهرطقة وإنما ضرورة وحاجة مقصدية ماسة إلى ماء أبلج أذفر ينعش القلوب، كالحاجة إلى ماء السماء!
«حياكم على العشاء» قالها الأخ العزيز خالد الخاجة صاحب الدعوة وهذا اللقاء الوطني الموحد للقلوب، لتتفرق بالتالي تلك الأسئلة التأملية والهواجس الملتاعة كاليراع والحباحب في ظلمات السياسة المتشجرة بداخل رأسي، ويتوجه جميع الحاضرين بعد الأمسية الصوفية الدافئة والجميلة تلك إلى مأدبة عراقية شهية كانت قد أعدت بانتظارهم، ليتفرقوا من بعدها في منتصف الليل كلٌّ إلى مستقره وأشغاله شاكرين حسن الضيافة الأصيلة والمعتادة ومثنين على حسن استغلال هذه الفرصة الثمينة التي التقت فيها القلوب كافة الآتية من شتى أنحاء الوطن الأصغر والأكبر، والتي يحرص دوما الأخ العزيز خالد الخاجة على تقريبها ومد حبال المودة بينها بمناسبة أم من دون مناسبة.
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1676 - الأحد 08 أبريل 2007م الموافق 20 ربيع الاول 1428هـ