من الصعب تعقل التوفيق بين الحضارة الإسلامية وبين المدنية الغربية، وذلك لاختلاف الأسس التي تستند إليها مكونات كل منها، بكل ما تختزنه من تاريخ وفلسفة ودين.
فلو انتقلنا إلى مستوى آخر من السؤال وهو: هل يوجد تضاد بين الدين، وبين تطور العلاقات الإنسانية على أساس تطور النظرة إلى الإنسان؟ هكذا يجب أن يكون السؤال، وليس عن تناسب الدين مع التطور التقني والعلوم الطبيعية فهو لا يعبر عن المشكلة الحقيقية، وإن كان التطور في تلك المجالات (مجالات التقنية) يعد من الانجازات الكبرى للمدنية الحديثة، بل يستحيل أن يكون بمعزل عن التأثير في طريقة التفكير، وأنماط تعامل الفرد مع الحياة ومع الآخر، إذ إن العلاقة بينهما تبادلية بمعنى إن كلا منهما يؤثر في الآخر.
وقد يدعى بأن ما يتراءى من التضاد بين الدين والمدنية ينشأ في الغالب عن قصور فهم الإنسان للدين وليس الدين نفسه، فعطاء الدين يكون بمستوى الوعي لدى المتلقين له، نظير النص الواحد الذي يقرؤه عدة أفراد تختلف مستوياتهم في الفهم، ونظير العناصر الكونية التي تختلف مستويات الاستفادة منها، حسب تطور فهم الإنسان للطبيعة وطرق استغلالها، فعطاء الشمس إلى القرن الماضي ينحصر بالتدفئة والتجفيف فحسب، ولكنها اليوم تعطينا الطاقة الشمسية التي تحرك الحياة، وكذلك عطاء الدين يكون بقدر أسئلة الناس وتطلعاتهم وعلى قدر وعيهم بمضامينه ونسبته إلى الواقع.
ومن الضروري القول إن تطور النظرة إلى الإنسان والحياة ليس أمرا صنعه العدو ليغزونا أو يدمرنا به، بل هو تطوّر تراكمي للتجربة البشرية عبر فترات زمنية متواصلة، فلابد من تفكيك ذلك التراكم والتعرف على نقاط قوته وضعفه، فلقد ساهمت المدنية في تقليل نسب الفقر، بسبب ارتفاع المداخيل ووفرة الإنتاج، والخدمات، وساهمت في ارتفاع متوسط عمر الإنسان، بفضل الوسائل الحديثة للعلاج والعناية الصحية، والأهم من كل ذلك هو إنها ساهمت في نمو معدل الحرية الفردية، وحققت حوافز حقيقية للإبداع والابتكار.
ولكن لا توجد حالة قانونية أو ثقافية تخلو عن بعض النتائج السلبية في مقام الفهم أو التطبيق، ويشمل ذلك الثقافات التي تنبثق عن مصدر إلهي أيضا وذلك لأنها تنتهي حتميّا إلى الإنسان في مقام التلقي والفاعلية، فهو يترك عليها بصماته بكل ما فيها من إبداع خلاق من جهة أو قصور وتقصير من جهة أخرى، ويكفي في التصديق بهذه الدعوى ملاحظة ما آلت إليه المسيرة التاريخية للأديان، فلا توجد حضارة دينية ناصعة وخالية عن الأخطاء والعثرات، بل الانتكاسات عبر التاريخ، ولذلك فلا مناص عن البحث النقدي في مكونات الحضارات سواء انتمت إلى مصدر إلهي أم إلى مصادر بشرية.
وتبرز عقدة التضاد بين الدين والمدنية في مساحات ثلاث هي أولا: الميتافيزيقيا الدينية كالاعتقاد باليوم الآخر، وضرورة تسخير الطاقات لصالحه، وثانيا: الوظائف الدينية بفروعها الكثيرة والمتشعبة، وثالثا: رهانات القوة الناتجة عن الحالة الدينية (سأحاول شرحها في مقال لاحق) وكذلك مدى تناسب الدين مع مفاهيم جديدة في مجال فهم الإنسان، والعلاقات الإنسانية نظير علاقة المتمسك بالدين أو المذهب بسواه، ونظير قضايا الدولة وأحكام المرأة وحقوقها المدنية، ومنها الإرث، والديات، والشهادة، وعلاقتها بالزوج ومدى سلطته عليها وانحصار الطلاق بيده ومنع سفرها بغير محرم وعدم صلاحيتها للتصدي لشئون الولايات كالقضاء ورئاسة الدولة.
وبرزت عدة محاولات من داخل الصناعة الفقهية لتخطي هذه الأسئلة، نظير دعوى الخروج عن الفهم الحرفي للنص، وإسقاط إطلاقه من خلال تقييد مدلوله بقرينة ظرفه وسياقه، وناتج ذلك حصر الثبات في الحكم المنصوص بمصاديقه المعهودة في زمن النص والتحرك بما عداها انطلاقا من ضوابط الأصل العقلاني أو الشرعي العام (ما يصطلح عليه في علم أصول الفقه: الأصل العملي) ويكون هذا مراد الإمام الخميني - رحمه الله - في مقولته الشهيرة «تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان»، ولعل ما يترتب على هذا الاتجاه التفصيل المتداول في بعض الكلمات بين الربا الاستهلاكي، وبين الربا الاستثماري وحصر دليل حرمة الربا بالأول بدعوى كونه المتعارف في زمن النص.
ولكن من الممكن أن يقال إنه ليس بالإمكان التوصل من خلال هذا المنهج إلى ديناميكية حقيقية، تستجيب لمتطلبات الواقع المختلف بنيويّا مع الواقع المعاصر للنص، فمثلا ماذا يستطيع أن يفعل هذا المنهج تجاه الأسئلة المتقدمة بشأن المرأة؟ فهذا المنهج يبقي على قدر كبير من التأطير بمضامين تلك النصوص، التي لا شك في انه روعي في مداليلها وسياقات خطاباتها كل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية يومذاك، وصحيح ان مصدر تلك النصوص رباني مطلق ولكن منتهاها هو الإنسان في مقامي التفسير والتطبيق، ويراد لها أن تتحرك في واقعه وأن تتفاعل معه، فمقتضى الحكمة أن تراعي أبعاده وحدوده كما قال الله تعالى «ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون» (الأنعام: 9).
وقد قيل إن القانون وليد الثقافة فمهما كان القانون الحكيم إصلاحيا وتقدميا بالنسبة إلى الواقع المعاصر له، فإنه يستحيل أن يكون متصادما معه بالمطلق، ومصادرا له بشكل تام، بلا فرق بين أن يكون مصدر القانون إلهيا أو بشريا، فهذا نظير ما يصطلح عليه علماء الكلام «القصور في القابل وليس الفاعل».
ولذلك فمن السائغ أن نتطلع إلى تنظير آخر، قد يستنبط من كلمات بعض كبار الأصوليين كالشيخ الأصفهاني الكمباني «نهاية الدراية في شرح الكفاية»، والشهيد السيد محمد باقر الصدر (رحمهما الله) حيث قررا في أبحاثهما الأصولية بأن الشريعة قد أمضت النكتة العقلائية في أبواب المعاملات والسياسات، بمعنى التأكيد على المناط العقلاني للتعاملات المتعارفة في زمانه وليس أشكالها وصورها الخارجية.
ويعني ذلك الثبات على أصالة النظم والعدل، مع تغير تطبيقاتهما بحسب الأعراف المتجددة، لأن ما هو نظر الشريعة تلك المناطات العقلانية وليس تطبيقاتها ومصاديقها الخارجية، وبناء على هذا الاتجاه فلا حد أعلى ولا أدنى لتطبيقات النظم يقتضيهما النص ما عدا التأطير القيمي العام المتمثل في النظم ذاته.
وغير خفي أن لهذا التنظير نتائج ولوازم، قد تكون خطرة على الفقه السائد، ولكننا مع ذلك لا نرى وجود إشكال حقيقي فيه، إذ إنه لا مانع من حيث العقل ولا الشرع في تأسيس فقهي مبتكر، إذا كان لا يتصادم مع مسلمات الشريعة الواضحة، إلا أن العقدة الحقيقية في هذا الاتجاه تكمن في مدى إمكان الاستدلال عليه والبحث في مؤكداته، وهذا ما يدعوني إلى التوسع في هذا البحث في مقالات قادمة.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1673 - الخميس 05 أبريل 2007م الموافق 17 ربيع الاول 1428هـ