شكّل النصف الثاني من القرن التاسع عشر فترة مفصلية في تاريخ النخبة العربية. ففي تلك المرحلة اشتدّت الضغوط الفوقية على السلطنة العثمانية وبدأت الجيوش الأوروبية الانتشار الميداني في المنطقة العربية. هذا التحوّل ساهم في توليد اتجاهات متباينة في وسط تلك النخبة التي تشكّلت اجتماعيّا من منابت ثقافية مختلفة. وبسبب اختلاف المنشأ تأسست وجهات نظر كان من الصعب توحيدها في مدرسة واحدة. فكل فئة من النخبة تعاملت مع التحديات بأسلوب مغاير. فهناك فئات وجدت في الغرب قوة صاعدة ورأت في تقليد نماذجه واسطة للتقدم. وهناك فئات تأثرت بتقدم الغرب ولكنها بذلت جهودها للفصل بين النموذج الثقافي والسياسة الميدانية. وهناك فئات ارتدت على الغرب ووجدت في أوروبا ذاك العدو السياسي الذي يريد السيطرة والنهب وتحطيم الهوية القومية وتفكيك الوحدة التاريخية التي تجمع شعوب المنطقة.
اختلاف التوجهات أسس مجموعة «حداثات» عربية تتوافق على مسألة التخلف والتراجع والضياع وتتعارض في قراءة آليات التقدم وما يتطلبه من أدوات عملية للنهوض.
إلى انقسام النخبة بدأت المجتمعات تشهد تحولات في بناها الاجتماعية فنشأت إلى جوار العلاقات التقليدية المتوارثة قطاعات اقتصادية (تجارية) حديثة ترتبط مصلحيا بالمؤسسات الأوروبية النقدية والمصرفية والإنتاجية (الشركات). وساهم هذا التفكك الاجتماعي - الاقتصادي في نمو قطاع حديث إلى جانب قطاع تقليدي. وولدت هذه الازدواجية تنافرات ثقافية وسياسية بين نخبتين: الأولى حداثية منقسمة على توجهات وتباينات في رؤية الغرب وأسلوب التعامل معه. والثانية تقليدية أخذت تقاوم وتجاهد دفاعا عن هوية الأمة ووحدتها وثقافتها الموروثة.
كل هذا الجدل الثنائي ارتسمت معالمه سياسيا وميدانيا وثقافيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففي هذه الفترة المفصلية في التاريخ سارت خطوط النهضة على سكك متقابلة لا تلتقي على منهج واحد. وبسبب اختلاف التوجهات اندلعت صراعات فكرية وفلسفية وسياسية بين النخب قادتها مجموعات تنتمي إلى خطين: التقليد والحداثة.
أسماء كثيرة ظهرت على سطح الثقافة العربية المعاصرة آنذاك، منها من ولد في بدايات القرن ورحل قبل نهاياته، ومنها ولد في نهايات القرن ورحل في النصف الأول من القرن العشرين. وكل أعمال هذه الأسماء لاتزال متداولة أو على الأقل تعتبر حتى الآن تشكل عينة توجز ثقافة مرحلة قلقة ومضطربة ساهم إعلامها في تأسيس الكثير من المفاهيم التي أعيد مرارا بحثها وصوغها أو تكرارها بمناسبة أو من دون مناسبة. فأفكار هذا الرعيل الذي تطرق للكثير من الميادين الايديولوجية، تعتبر بالنسبة إلى ما يسمى ثقافة النهضة العربية مجموعة عناوين لاتزال الأجيال تعمد دائما إلى إعادة إنتاجها في إطار منهجيات أكثر تقدما ولكنها لم تنجح في تجاوزها على مستوى الأهداف والغايات.
أعمال نخبة القرن التاسع عشر، وخصوصا كتابات النصف الثاني منه، تميزت بالطموح نحو الإصلاح السريع وتجاوز الثغرات والعقبات الميدانية ولكنها أيضا عانت من ضعف في رؤيتها التاريخية وقلة إدراك لدور القوى الاجتماعية القادرة على حمل تلك الأفكار «الجديدة» والدفاع عنها.
ازدواجية الطموح والضعف ساهمت في تناثر القوى «الإصلاحية» وتبعثرها لأسباب مختلفة منها الانقسامات الأهلية الموروثة عن العهود السابقة، ومنها ضعف البنى الحديثة القادرة على مواجهة العلاقات التقليدية وثقافتها الموروثة، ومنها أيضا دور الدول الأوروبية في إحباط كل محاولة جدية لإصلاح السلطنة وتحديث إداراتها سواء على مستوى مركز الدولة أو أطرافها.
رؤية حوراني - شرابي
البرت حوراني لاحظ هذا الخلل المتعدد الأوجه حين قرأ عناصر «الفكر العربي في عصر النهضة» في الفترة الممتدة من 1798 الى 1939. فحوراني أدرك ذاك التفاوت في الرؤية بين «المثقف المسيحي» و «المثقف المسلم» الناجم أصلا عن معتقدات موروثة أو نزعة دينية أو اختلاف التعامل مع نفوذ الغرب وقناصله وشركاته وإرسالياته.
عن دور القنصليات يقول حوراني: «كانت كل قنصلية أوروبية مركز نفوذ تلتف حوله فئة من الرعايا المحميين، المسيحيين منهم واليهود العثمانيين، الذين منحوا بعض امتيازات الأجانب. ولم تقتصر الحماية الأوروبية على الأفراد، بل تعدتهم إلى جماعات بكاملها». ويضيف «كانت الطوائف الأرثوذكسية وغيرها من الطوائف المسيحية تزداد ثروة وثقافة ونفوذا طوال القرن الثامن عشر. فالحماية الأجنبية لم تمنحها امتيازات سياسية فحسب، بل وفرت لأبنائها أيضا، وهم عملاء التجارة مع أوروبا في ذلك الحين، منافع تجارية ومالية» (ص 57 - 58).
هذا التمييز بين الطوائف التي تتشكل منها السلطنة العثمانية ساعد على نمو تفاوت في الموقع الاجتماعي وأسلوب التعامل الثقافي مع الغرب. وبسببه بدأت «الحداثة» المستوردة فكريا تتأسس داخليا في إطار منظومة «الملل والنحل» وأخذت تتلون بالطوائف والمذاهب وتباعد بين المكونات الأهلية للسلطنة.
لاحظ حوراني هذا الأمر أيضا حين تحدث عن دور الكنيسة الكاثوليكية (الفاتيكان) في مد شبكات علاقات خاصة مع المسيحيين السوريين الذين أصبحوا «متأثرين ببعض نواحي الفكر الأوروبي»، إذ منذ «القرن السادس عشر، كانت الكنيسة الكاثوليكية قد أقامت أولى علاقاتها النظامية بالطوائف المسيحية الشرقية». وبفضل هذه الأنشطة التي قامت بها الإرساليات بحماية فرنسا «نشأت شبكة من المدارس الكاثوليكية في كل مكان تقطنه طوائف كاثوليكية أو قابلة لأن تصبح كاثوليكية، وبنوع خاص في لبنان وحلب». وشكل هذا التأسيس التعليمي والتجاري بداية نمو «فريق من المثقفين، وعوا عالم أوروبا الجديدة بل اعتبروا أنفسهم، بمعنى من المعاني، جزءا منه» (ص 76 - 77).
يربط حوراني بقوة بين التجارة والثقافة وبين التدين والمصلحة فهو يلحظ أن المعاهد والإرساليات الأوروبية أسست أديرة في جبال لبنان «تتبع قواعد الترهب الغربي» فنشأت مع الزمن «طبقة من المدنيين المثقفين وجدوا مجالا لمواهبهم في دواوين الحكام المحليين». وبسبب هذا الموقع المميز أخذت التجارة مع أوروبا تنتقل «إلى أيدي المسيحيين واليهود الشرقيين بفضل الحماية القنصلية لهم، كما بفضل معرفتهم اللغات والأساليب التجارية الأوروبية» (ص 78 - 79).
شكل هذا الرعيل الوعاء السياسي - التجاري للثقافة الغربية التي تكونت في سياق شبكات من المدارس الدينية المسيحية التي أشرفت عليها الإرساليات التبشيرية برعاية الشركات وقناصل الدول الأوروبية لذلك كانت تلك الثقافة «التي اقتبستها هذه الفئات، فئات الكهنة والتجار والكتاب، ثقافة لاهوتية». فالثقافة التي حرصت أوروبا (الإرساليات والقناصل) على تصديرها إلى بلاد الشام (المشرق العربي) لم تكن علمية أو ذات صلة بالفكر العقلاني وإنما تركزت «على آداب اللاهوت الكاثوليكي وعباداته» كما يقول حوراني في كتابه (ص 79).
ولّدت هذه «الثقافة اللاهوتية» في وسط النخبة المسيحية المشرقية ردة فعل لاهوتية مضادة في وسط النخبة المسلمة في المشرق العربي. وتشكلت في ضوء هذا التضاد الأهلي أكثر من رؤية للإصلاح والحداثة، كما لاحظ هشام شرابي الأمر في كتابه «المثقفون العرب والغرب».
شرابي لا يختلف كثيرا في تحليله للمسألة عن منهج حوراني. فهو قرأ المسار التقسيمي الأهلي لنشوء النخبة العربية في القرن التاسع عشر في السياق نفسه، إذ كما يقول «بدأت كل جماعة تنظر إلى نفسها من ضمن إطار ثقافي سياسي محدد». المثقفون المسيحيون ربطوا أنفسهم «بقيم البورجوازية ومثلها» في حين اعتبر المثقفون المسلمون أنفسهم «معارضين للثقافة الأوروبية وللسيطرة الأوروبية» (ص 16 - 17). وهذا أدى برأي شرابي إلى ما يسميه بـ «التأقطب» بين نظرتين: التحديثية والتقليدية.
شكلت فرضية «التأقطب» الأساس الايديولوجي للانقسام السياسي - الأهلي في المنطقة وتكونت في ضوء ثقافتها تلك التمايزات والألوان الطائفية والمذهبية سواء في رؤية الإصلاح أو في التعامل مع الغرب. فبرأي شرابي أن المثقفين المسيحيين آنذاك لم يتمسكوا بالقيم والأهداف المستمدة من الغرب «بل إنهم عملوا على ربط المسيحيين العرب بالغرب حضاريا» بينما ظل المسلمون حتى العلمانيون منهم «نافرين من الغرب» ويطالبون بالمحافظة على هوية المنطقة «الإسلامية المستقلة» (ص 21 - 22).
وتبلور هذا «التأقطب الفكري» في تكوين ذهنيتين «لكل منهما قيمها وأفكارها وآفاقها» بين التيار المسيحي المتغرب والتيار الإسلامي الإصلاحي. فالمسلم برأي شرابي كان مقيدا بالروابط التقليدية بينما المسيحي كان أكثر تحررا في اتخاذ مواقف مطلقة. ولهذا السبب يرى شرابي «ان المثقفين المسيحيين العرب لعبوا دورا رئيسيا في النهضة العربية» (ص 28) لأنهم كانوا «مهيأين بكل قلوبهم لتبني حضارة أوروبا الحديثة» (ص 30).
هذا التأقطب بين المسلم والمسيحي يعود كما يرى شرابي إلى أن الأول «مرتاح البال إلى محيطه الاجتماعي» بينما الثاني «يعيش صورة القلق الواعي» (ص 33). وبسبب الانقسام المذكور تشكلت تعارضات ذهنية في رؤية الحداثة والإصلاح في المنطقة العربية. فالمسيحي كان يدفع نحو «تحويل جذري وفق النموذج الأوروبي» بينما المسلم كان يجد في «الاتجاه التجديدي نحو الغرب بداية نهاية الإسلام» (ص 34).
يعتمد شرابي فرضية «التأقطب» لإعادة قراءة الاختلاف بين رؤية «المثقف المسيحي» للإصلاح والتحديث ورؤية «المثقف المسلم» وكيف انعكس سلبيا وإيجابيا على فكر النهضة العربية الذي انطلق في ضوء الانقسام الأهلي وأسس تلك الشروط الايديولوجية التي وضعت المصلح المسيحي في موقع مضاد للمصلح المسلم. فالأول كان يرى في الغرب «أسطورته» بينما الثاني كان يرى في عصر الإسلام الذهبي «أسطورته» (ص 67 - 69).
إلا أن شرابي وجد في التيارين جوامع مشتركة (كيان ثقافي واحد) شكلت لاحقا مشكلة لعملية الإصلاح وتمثلت برأيه في مجموعة نقاط أبرزها «مبدأ الاستعارة من الغرب» والتصور السطحي لفكرة «التاريخ في الايديولوجية الإصلاحية» (ص 72 - 73).
كل هذه العوامل الموضوعية والذاتية التي بحثها حوراني وشرابي ساهمت في تكوين أسس ايديولوجية سلبية لمفهوم النهضة ورؤية الإصلاح وتحقيق التقدم. ولذلك عندما تنافست نخبة القرن التاسع عشر في طرح الأفكار سقطت تلك الآراء المستعارة على واقع متأخر زمنيا ومنقسم أهليا فتشكلت في إطار حدوده الطائفية معالم «حداثات» انبثقت من تجمعات «الملل والنحل» وعجزت واقعيا عن تجاوز القلق الديني أو التوتر المذهبي الأمر الذي انعكس سياسيا على نخبة القرن العشرين. فهذه النخبة الممتدة بقيت أسيرة تلك المنطلقات ولم تنجح في تطوير فكرة الدولة حتى في مرحلة ما بعد انهيار السلطنة العثمانية وإلغاء الخلافة الإسلامية. وبعض صور هذا الضعف والتمزق والتأخر لانزال نراه في حاضرنا.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1673 - الخميس 05 أبريل 2007م الموافق 17 ربيع الاول 1428هـ