في الشهر الماضي أعلنت أربع من مؤسسات المجتمع المدني تأسيس تكتل أهلي أطلقت عليه «التحالف الوطني من أجل الموازنة العامة المنصفة»، ويتشكل هذا التحالف من الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، والجمعية البحرينية للشفافية، والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين وجمعية المحاسبين.
وبحسب القائمين عليه فإن هذا التحالف يهدف إلى التواصل مع المواطنين والنواب للخروج بموازنة منصفة، حيث سيتم طرح الموازنة المربوطة للعامين المقبلين 2009 - 2010 على البساط البرلماني في دور الانعقاد الحالي الذي افتتح أبوابه في النصف الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول.
ولا بد من الإشادة ابتداء بهذا الحراك الكبير من قبل المجتمع المدني، الذي يعكس تحضرا كبيرا في التعاطي مع ملف الموازنة العامة بوصفه أحد الملفات الرئيسية لأية تنمية حقيقية.
ولكن الغريب هو عدم تعاطي الجمعيات السياسية بجدية مع الموازنة، على رغم أن ملف الموازنة هو أحد الملفات الرئيسية الذي يعكس مدى نضج العمل السياسي، لأنه يتعامل مع أحد أهم الملفات حساسية وانعكاسا على الوضع العام.
«التحالف الجديد» يتمحور دوره حول حق المواطن في معرفة تفاصيل الموازنة العامة، وكيفية وضعها وأهم مواردها ومصروفاتها، حيث يؤدي ذلك إلى كسب المزيد من المشاركة الشعبية في وضع الموازنة العامة للدولة.
الموازنة العامة السابقة أقرت على عجل، فقط طرحتها الحكومة قبل موعدها الدستوري بقصد حرمان مجلس 2006 الذي تشارك فيه المعارضة من إقرارها، وبالفعل مررت الموازنة السابقة من قبل النواب السابقين بصفة الاستعجال، وهو أمرٌ كان مثار استهجان كبير من قبل المراقبين للتجربة السياسية الوليدة في البحرين.
الآن الموازنة العامة الجديدة أصبحت في عهدة النُّواب، وتحديدا في يد «نواب المعارضة»، فكتلة الوفاق تترأس اللجنة المالية والاقتصادية في مجلس النُّواب، وهي اللجنة التي ستطبخ فيها الموازنة، والجميع ينتظر كيفية تعاطي النواب وخصوصا الوفاقيين منهم مع هذا الملف.
«الموازنة العامة المنصفة» تشكل تحديا كبيرا، لأنها مفتاح التنمية الحقيقية... التنمية المتوازنة، التي تراعي الحاجات والمتطلبات، والقائمة على أجندة وأولويات بآجال زمنيَّة، لأننا شهدنا في الموازنات السابقة أن نصف المشروعات المرصودة في الموازنة لا تطبق لأسباب مختلفة، منها ضَعف الرقابة الحكومية الداخلية على أداء المؤسسات، والمشكلة الأخرى هي ضعف الرقابة البرلمانية، وخصوصا أن الموازنة العامة السابقة مررت على عجل بصفة مستعجلة، أما هذه الموازنة فقد قدمت بنسق طبيعي، لكنها ستعكس قدرة الكتل البرلمانية على تنفيذ برامجها الحقيقية.
ثمة أولويات مهمة يجب أن يقرها النواب في الموازنة الجديدة حتى يمكن للمواطن أن يطمئن بأن المجلس النيابي قادر على فرض فلسفة إنمائية متوازنة، والتحدي الأهم والأكبر للجميع هو رفع موازنة وزارة الإسكان، لأن عشرات المشروعات الإسكانية المناطقية بالإضافة إلى المشروعات الإسكانية العامة (المدينة الشمالية مثالا) معلقة، والكثير من المشروعات توقَّف العمل بها، لأنها تفتقر إلى التمويل، وتضرر الكثير منها بالارتفاع الحاد في أسعار مواد البناء والإنشاءات.
التحدي الآخر هو رفع موازنة وزارة التربية والتعليم بما يلبي تطلعات الجميع من هذه الوزارة، وعلى رأسها تنفيذ مقترحات مشروع إصلاح التعليم، فلا يمكن مطالبة التربية بألا تضع 40 طالبا في فصلٍ دراسي واحد من دون توفير الموارد المالية اللازمة.
كما أن جامعة البحرين تعاني حتى الآن من عجز في الموازنة، وكانت قد احتاجت إلى اعتماد إضافي كبير على ما خصص لها في الموازنة السابقة، وغالبية مشروعات التطوير في جامعتنا الوطنية متوقفة على الاستحقاق المالي، لذلك، فإن النُّواب لن يكونوا معذورين في عدم توفير الموازنة المطلوبة لهذا المرفق الوطني المهم. موازنة وزارة التنمية الاجتماعية هي الأخرى تحتاج إلى رفع، لأن الوزارة لديها قائمة من المشروعات بحاجة إلى أن تستكمل في الفترة المقبلة، ويجب أن يصار إلى تخصيص موازنات أكبر للمصروفات (المساعدات الاجتماعية)، لأن ما تقدمه الوزارة من مساعدات متنوعة لايزال قاصرا عن الإيفاء بالحاجة الحقيقية للشرائح الأقل دخلا.
هيئة الكهرباء والماء هي الأخرى عرضت على مجلس النُّواب قبل بضعة أسابيع خطتها الإستراتيجية لتطوير قطاعي الكهرباء والماء، وهدف هذه الخطة - بحسب ماهو معلن - هو تلافي أية انقطاعات كهربائية كالتي حصلت في صيف هذا العام، ودار حديث عن موازنة «المليار» لإصلاح وضع الهيئة لتطوير شامل لشبكة الكهرباء ولكن يبدو أن هذا الرقم سيكون بعيد المنال وفق الموازنة المعلنة حاليّا على الأقل.
وزارة الصحة كانت ولاتزال تطالب بموازنة متكافئة مع الضغط الهائل بالنسبة إلى المواطنين والأجانب على خدماتها، ولاتزال الكوادر المالية معطلة منذ سنوات تراوح مكانها بسبب قلة ما في يد هذه الوزارة، وحسنا قام النواب بوضع يدهم على الجرح، حينما أرجعوا أحد الأسباب الرئيسية في تدني مستوى الخدمات الصحية إلى ضعف مخصصات هذه الوزارة.
كان الأمل معقودا على هذه الموازنة لتكون «موازنة الإعمار»، إلا أن الأرقام الضئيلة المخصصة للمشروعات الإسكانية- وعلى رغم اعتماد رقم تقديري جيد نسبيّا للبرميل (60 دولارا) - فإنها جعلت النواب بكل ألوانهم لا يخفون معارضتهم إقرار حصة المشروعات الإسكانية في الموازنة على هذا النحو.
وأجمل تعليق برلماني سمعناه في هذا الشأن هو تعبير النائب لطيفة القعود الذي كان تعبيرها لطيفا جدا، فهي عبّرت عن مجموع ما رصد للمشروعات المقرة في الموازنة بأنها «ليست أكثر من مزحة»!
ولكن الكل يسأل عن مدى قدرة النُّواب على وقف هذه «المزحة الحكومية الثقيلة»، أم ستنجح الحكومة مجددا في تمرير «المزحة» على النُّواب، سننتظر لنرى!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2252 - الثلثاء 04 نوفمبر 2008م الموافق 05 ذي القعدة 1429هـ