من المعروف تاريخيّا أن الزراعة هي أساس الحضارة بل إن كلا من الزراعة والثقافة ترجعان في أصولهما باللغة الانجليزية إلى الأصل اللاتيني في كلمة ثقافة كما أن دراسة تاريخ الحضارات تربط بين الزراعة والحضارة من ثلاث زوايا.
الأولى إن الإنسان في تطوره من التجوال والترحال إلى الاستقرار مثلت الزراعة التطور الاقتصادي الذي دفعه إلى الاستقرار. والثانية إن حالة الاستقرار هذه ارتبطت بتفاعل الطين أو الرمل، مع الماء، أي حول الأنهار لري الأراضي وتحقيق الإنتاج الزراعي. الثالثة إن الارتباط كان وثيقا بين الزراعة وبين مظاهر الثقافة ابتداء من الدين إلى السلوكيات الجماعية إلى نشوء مبادئ التعاون والتضامن بين الناس. فالفلاح يبذر الحَبَّ في الأرض وينتظر المطر من الرب ليسقي الزرع ومثلت صلاة الاستسقاء ودعاء المطر أحد مظاهر التضرع والخضوع للإله عبر القرون.
واعتاد قدماء المصريين أن يحتفلوا بعيد وفاء النيل ويلقون بدمية على شكل عروس في تلك المناسبة، كما أن نشأة الحضارات في مصر وبابل والصين والهند وفارس وغيرها، قامت كلها حول الأنهار.
وتعتبر الزراعة ومدى نمائها ومحصولها الوفير علامة من علامات رضاء الله عن الحاكم والمحكوم، ومن ثم فإن سنوات الجدب والقحط والجفاف تعتبر علامة على غضب الله لانحراف الحكام، ومن ثم فهي دعوة للمحكومين للثورة عليهم، وهذا من أساطير الحضارة الصينية بل من ركائز تراثها الثقافي.
وقد اعتبرت عبقرية ماوتسي تونغ في الصين أنه نقل الفكر الماركسي من طبقة العمال إلى طبقة الفلاحين في أعظم إضافة فكرية له إلى الماركسية في تقريره المشهور عن الفلاحين في هونان في منتصف العقد الثالث من القرن العشرين وتحديدا العام 1927 ما أدى إلى بروز في قيادة الحزب الشيوعي الصيني ووصوله إلى منصب سكرتيره العام ثم زعامته للحزب بعد ذلك، وقيادته مسيرته الناجحة حتى إعلان جمهورية الصين الشعبية على رغم أن ممارساته في السنوات الأخيرة كانت موضع نقد وجدل كبيرين وخاصة المرحلة التي أطلق عليها «الثورة الثقافية البردليتارية العظمى».
وفي الصراع بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة كانت الزراعة من أخطر نقاط الضعف في النظام الشيوعي السوفياتي، كما أنه في الصراع الوطني بين مصر والولايات المتحدة في عهد الرئيس جمال عبدالناصر في مطلع الستينات من القرن الماضي مثلت الزراعة إحدى ركائز الضعف لدى النظام المصري، والشيء نفسه في صراع الزعيم الهندي جواهر لال نهرو وابنته انديرا غاندي مع الضغوط الأميركية ولهذا أطلقت الهند إحدى أهم ثوراتها الحديثة باسم الثورة الخضراء لكي تحقق الاكتفاء الذاتي لبلادها في الإنتاج الزراعي حتى لا تتخذ القوى الأخرى الحبوب والطعام أداة ضغط عليها.
وعلى رغم مكانة الزراعة والفلاحين في نجاح الثورة الشيوعية في الصين فإنها لم تحظ بالمكانة اللائقة في التطور الصيني المعاصر لتأثير 3 عوامل، أولها طبيعة الإنتاج الزراعي ومحدودية العائد الاقتصادي منه مقارنة بالإنتاج الصناعي الذي مثل ركيزة التنمية الاقتصادية منذ الثورة الصناعية في أوروبا. ثانيها طبيعة ثقافة وسلوك الفلاح مقارنة بثقافة وسلوك العامل، فالأول أكثر خضوعا للنظام السياسي بل يعتقد أنه أساس فكر الاستبداد عبر العصور في حين أن الثاني هو محور الثورات الحديثة لسهولة تجمع العمال وتركزهم في المصانع ولظهور، التنظيمات النقابية في المصانع عنها في النشاط الزراعي. ثالثها الثورة العلمية والتكنولوجية المتصلة بثورة المعلومات، وهذه زادت من تراجع دور الزراعة في الإنتاج الوطني الإجمالي لصالح ثورة المعرفة التي ارتبطت بالمدينة، ولكن سواء سكان المدينة أو سكان الريف يمثل الإنتاج الزراعي أساس وعماد معيشتهم وقوتهم فضلا عن كونها موردا مهمّا من الموارد لإنتاج الكثير من الصناعات وخاصة صناعة المنسوجات.
وأخذ الصينيون العبرة من التجربة الاشتراكية السوفياتية وإخفاقها وبروز القطب الواحد المهيمن في السياسة الدولية ولذلك سعوا إلى إصلاح حال الزراعة والفلاحين منذ ثورة الإصلاح التي قادها دنغ سياوبنغ العام 1978 وتراجعوا عن فكرة الكوميونات والزراعة الجماعية والملكية الجماعية في الزراعة على مراحل بدأت بالسماح بحق الفرد في الانتفاع بقطعة أرض بجوار مسكنه ثم حقه في الانتفاع بها، ونقل هذا الحق إلى الغير بما يقرب من الاعتراف الكامل بالملكية الخاصة للأراضي الزراعية في الإصلاح الذي أقره الحزب الشيوعي بزعامة خوجنتاو في أكتوبر/ تشرين الأول 2008.
وعلى رغم أن إطلاق الإصلاح الزراعي الجديد جاء متزامنا في توقيته مع اندلاع شرارة الأزمة المالية العالمية فإن العمل من أجل بلورة هذه السياسة الجديدة بدأ من مطلع العام 2008، واستعراض مراحله يقدم إلينا نموذجا عن عملية صنع القرار في السياسة الصينية المعاصرة، ففي يناير/ كانون الثاني 2008 بدأ تفكير القيادة في ضرورة إصلاح النظام الزراعي وعلاقة الفلاح بالوضع الاقتصادي لأنه نتيجة التطور التنموي الكبير في الصين زادت الهوة بين وضع الريف ووضع المدينة، وأصبح دخل الفلاح ثلث دخل المواطن في المدينة في حين أنه قبل هذا التطور كان الدخل متقاربا بل إن الثورة الثقافية التي قادها ماوتسي تونغ من 66 إلى 1976 دعت كوادر الحزب وجميع المثقفين إلى الذهاب إلى الريف للتعلم من الفلاح والمشاركة في الزراعة.
وفي مارس/ آذار 2008 قرر المكتب السياسي للجنة المركزية ولجنته الدائمة أن يكون محور الدورة الثالثة العامة للجنة المركزية للحزب في المؤتمر السابع عشر هو الإصلاح والتطور والتنمية في الريف.
وفي 25 مارس تم تعيين فريق صياغة لوضع خطة الإصلاح هذه، وكان هذا الفريق تحت الرئاسة المباشرة لنائب رئيس الوزراء وعضو المكتب السياسي للحزب خوي ليانغ يي Hui Liangyu وعضو سكرتارية اللجنة المركزية للحزب ومدير مكتب أبحاث السياسات في اللجنة المركزية Director of Policy Research Office ووانغ خونغ Wang Huning ضم فريق الصياغة 49 عضوا من مختلف أجهزة الحكومة المركزية والمحلية والباحثين المتخصصين في قضايا الريف. وعقد هذا الفريق أول اجتماع له في 25 مارس تحت رئاسة رئيس الدولة خوجنتاو وأقر 7 محاور رئيسية للبحث بما في ذلك إنشاء زراعة حديثة، تحويل الصناعة لتعزيز الزراعة وتحويل المدن لمساعدة الريف.
وفي ابريل/ نيسان 2008 قام فريق الصياغة هذا بزيارات ميدانية لـ 12 مقاطعة وحكم ذاتي في جميع أنحاء الصين.
كما أسند، فريق الصياغة إلى 18 إدارة حكومية مركزية ومراكز أبحاث مستقلة، مهمة إعداد تقارير في هذا الصدد وتجمع لدى الفريق 25 تقريرا من الجهات المختلفة، وبعد ذلك طلب الفريق من أعضاء اللجنة المركزية للحزب التقدم بآرائهم ومقترحاتهم وكذلك من شخصيات صينية غير شيوعية عن الإصلاح الريفي وتلقى الفريق 121 مقترحا.
وفي مطلع مايو/ أيار قام الفريق بأول صياغة لوثيقة الإصلاح بعد دراسة جميع التقارير والمقترحات وزياراته الميدانية.
وفي 26 يونيو/ حزيران 24 يوليو/ تموز 2008 عقدت اللجنة الدائمة للمكتب السياسي اجتماعين لمناقشة الوثيقة وكذلك اجتماعا ثالثا في 25 يوليو، وجرى في كل تلك الاجتماعات تعديل الوثيقة عدة مرات.
وفي 7 أغسطس/ آب تم طرح الوثيقة على القيادات المركزية والمحلية وكبار ضباط القوات المسلحة ونواب المؤتمر الوطني للشعب الصيني (البرلمان) وعلى القادة المتقاعدين والشخصيات غير الحزبية.
وفي 21 أغسطس اجتمع الرئيس خوجنتاو مع أعضاء الفريق والقادة غير الحزبيين وقادة اتحاد عموم الصين للصناعة والتجارة لمناقشة التقرير (الوثيقة) وتم إدخال تعديلات عليه.
وفي 8 سبتمبر/ أيلول قام الرئيس خوجنتاو بزيارة لمقاطعة هينان (إحدى المقاطعات الزراعية المهمة) والتقاء الفلاحين هناك.
وفي 18 سبتمبر عقدت اللجنة الدائمة للمكتب السياسي اجتماعا آخر برئاسة خوجنتاو لبحث التقرير، وفي 28 سبتمبر عقدت اللجنة المركزية للحزب اجتماعا برئاسة الرئيس الصيني خوجنتاو لإقرار التقرير الذي سيقدم إلى الدورة الثالثة للجنة المركزية السابعة عشرة للحزب. وفي 30 سبتمبر قام الرئيس خوجنتاو بزيارة أخرى لمقاطعة أنخوي حيث سبق للفلاحين هناك الحصول على حق تملك وزراعة الأرض حول بيوتهم منذ إصلاح العام 1978.
وفي 9 أكتوبر/ تشرين الأول عقدت الدورة الثالثة للجنة المركزية للمؤتمر السابع عشر للحزب اجتماعها في بكين، واستمر الاجتماع 4 أيام وقدم 150 مقترحا جديدا لتعديل التقرير ثم بعد ذلك تم اعتماده في 12 أكتوبر بعد إدخال 21 تعديلا جديدا على مشروع التقرير حتى تسنى إصداره نهائيّا.
ويلاحظ على عملية صنع القرار هذه النقاط الآتية:
الأولى: إن اتخاذ القرار مر عبر مراحل ومستويات عدة وتمت مناقشته على جميع المستويات.
الثانية: إن بداية اتخاذ القرار ونقطة الانطلاق اعتمدت على الدراسة الميدانية المباشرة وعلى الشخصيات المعنية والمتخصصة في الموضوع سواء من أعضاء الحزب أو الشخصيات غير الحزبية.
الثالثة: إن عملية الدراسة للتقرير (السياسة) تمت من خلال مراكز الأبحاث ومن الشخصيات السياسية القيادية وإن كل ذلك كان يتم في إطارين حزبي وغير حزبي.
الرابعة: إن رئيس الدولة كان يتابع الأمر عن كثب ويرأس عدة اجتماعات طوال مراحل إعداد الدراسة. كما كان يقوم مثل غيره من الشخصيات بزيارات ميدانية للريف لمعرفة الوضع على الطبيعة ولا يعتمد على التقارير التي تقدم إليه.
الخامسة: إنه في كل مرحلة من مراحل إعداد التقرير من مارس حتى أكتوبر كان يتم إدخال تعديلات جديدة على التقرير بما في ذلك آخر مرحلة. وهذا يعني أن المناقشات كانت جادة وصادقة وتعتمد على الخبراء والمتخصصين.
السادسة: إن مراحل اتخاذ القرار اعتمدت على المؤسسات الحزبية في كل مستوى وكذلك على الشخصيات غير الحزبية، أي أن الحزب الحاكم على رغم قوته السياسية ونفوذه في النظام الصيني لم ينفرد باتخاذ القرار.
السابعة: إن المعنيين بالقرار - أي الفلاحين - جرى استطلاع رأيهم وإشراكهم بصورة مباشرة وغير مباشرة في مختلف المراحل.
الثامنة: يتم إشراك جميع فئات المجتمع وقواه المدنية والعسكرية في العملية الخاصة بالقرار لأنه يهم الوطن ككل وليس حكرا على نخبة أو فريق مهما تكن خبرته وعمله.
هذه العملية الطويلة في اتخاذ القرار الخاص بالسياسات التي تهم المواطن الصيني جديرة بالتأمل، فالمواطن والمتخصص الخبير والمعني بالقضية يتم إشراكه في المراحل كافة ولا ينفرد المسئول أو الوزير بالقرار ويصدره بين عشية وضحاها، ومن ثم فإنه بعد صدور القرار بدقائق ينكشف وجود عيوب وثغرات فيه كما يحدث في بعض الدول وتبدأ عملية الإصلاح مجددا إذا حدثت.
حقّا القول المأثور «اطلبوا العلم ولو في الصين» والقول الآخر «اطلبوا الحكمة ولو في الصين» ما أحرانا أن نتأمل في ذلك بعمق وندرك أحد ركائز تحقيق القرار نتيجة الدراسة العميقة واسعة النطاق ويشرك فيه كل فئات الشعب من المتخصصين وحتى غير المتخصصين.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2252 - الثلثاء 04 نوفمبر 2008م الموافق 05 ذي القعدة 1429هـ