من البديهي القول إن أشد ما يكتنز عداء وبغضاء وفجورا في الخصومة لأي تكتل شعبي مدني حقوقي بما فيه العمل السياسي الوطني، والحراك النقابي العمالي هو واقع ومحيط الإقطاع الاقتصادي والسياسي المذهبي المفتت لكافة أشكال الترابطات الجوهرية بين أفراد المجتمع عن أية مطالب رئيسية لحقوق مدنية وقضايا وطنية.
فمجرد تحقق مثل هذا النوع من الحراك مجتمعيا، فهو يعد في عرف الإقطاع بكل أبعاده ورؤوسه نوعا من الحصار والتطويق، واستردادا للمشروعية والأحقية المغتنمة، ما يجعل الأمر يبدو وكأنما هو صراع وجود متناحر!
وبلا شك فإن مثل هذا الاكتناه لبديهية الصراع الوجودي بين الحركية النقابية والردود الإقطاعية، والذي كثيرا ما يحذو إلى تبني مسارات المواجهة المفتوحة بين الجانبين، لم يكن له أن يتكاثف ويزداد تركزا إلا عبر دور وطني رائد وضليع نهضت به الحركة النقابية العمالية في البحرين في مختلف التحركات النضالية والمطلبية التي شهدتها البحرين، إذ بات من صواب القول والجزم بأن العمل النقابي هو أشبه ما يكون بالوريد من قلب النضال، أو الغصن الأخضر من منتهى التفاحة!
فأينما تولي وجهك شطر الذاكرة الوطنية المحرمة فإنك حتما لن تفارق ناظريك صور التحركات النقابية بارزة في صلب شموخ الكفاح الوطني المدني المشروع، سواء أوليت وجهك صوب خمسينات «هيئة الاتحاد الوطني»، وزدت تبصرا في خيوط وتفصيل كل سيرة كفاحية لرجالاتها، أم أطلت النظر تجاه ثورة الغواويص التي تبدو كأنما هي الصدفة التي احتضنت نواة العمل النقابي، أو في أي ركن آخر قصي ومنسي من أركان تاريخنا المرهون للصمت والإعدام في أقبية الرقابة بوزارة الإعلام!
وقد ظهر في أثر ذلك كتاب المناضل الوطني البارز والنقابي العتيد عبدالله راشد مطيويع «صفحات من تاريخ الحركة العمالية البحرينية» مع تلاحم تلك الخطى النقابية الصقيلة الممتدة من فجر التاريخ إلى مطلع الحاضر، وفي خضم صخب الاحتدادات المتغيرة والمتبادلة خطابيا بين النقابات والدولة تارة في مطالب بالاعتصام وتارة أخرى مهرجانات خطابية ترفع فيها المطالب الحقوقية المنادية بتحسين المعيشة عبر إعطاء كل ذي حق حقه، والتي لا يختلف أحد حول مشروعيتها عدا جشع وانتهازية بعض أرباب القطاع الخاص ومكابرة بعض المسئولين الحكوميين.
فجميعهم على استعداد لتفريغ وتصريف نزعاتهم القمعية الباطشة في حق المطالبات العمالية الحية المنعوتة بالفوضوية، والمتهمة بإثارة عدم الاستقرار وتهديد صحة وعافية الاقتصاد المنتعش استثماريا رغم قرارات وتوجيهات الإرادة الملكية المنصفة لها.
هذا الكتاب أراد له مؤلفه عبدالله مطيويع أن يكون نافذة على ذكرى تجربة تاريخية مريرة خاضتها الطبقة العمالية الكادحة في البحرين، وهو، أي مطيويع، الذي علكت جسده الزنازين السوداء قبل أن يرتشف أول الندى في زهرة شبابه، ولم يتح له أن يتحسس هبوب رياح العقد الثاني من عمره على أول وجهه، وقد خاضت في جغرافيا أضلاعه آلات التعذيب الوحشية أكثر مغامراتها فجاجة!
فكان له أن يكون في سفره راصدا ومخلدا لأبرز صور النضال المشرقة التي خاضها العمال البحرينيون الكادحون على مدى قرن واحد في سبيل المطالبة بانتزاع حقوقهم المشروعة من أنياب الإقطاع والامبريالية والاستبداد!
ولعل أول ما سيلفت انتباهك حين تصفح هذا السفر القيم بما يحويه من تأريخ للأحداث وشهادات ووثائق تبين مسار الحركة العمالية البحرينية أمام منعطفاتها المتعددة، هو ما كتبه المؤلف في مقدمة الكتاب المعبرة بصدق وإخلاص حينما عبر عن فرحته الغامرة بإصدار قانون النقابات صباح يوم 29سبتمبر/أيلول2002، إذ كتب «كم كانت فرحتي كبيرة يوم إصدار قانون النقابات صبيحة 29سبتمبر2002والتي اكتملت في اليوم التاريخي الآخر، يوم افتتاح المؤتمر التأسيسي للاتحاد العالم لنقابات عمال البحرين حيث غادرني النوم حتى الصباح، وكان جميع الشهداء حاضرين في ذلك المحفل الكبير والتاريخي». كما تتحسس خلجاتك كلمات الشهيد سلطان علي حافظ الذي لقي مصرعه في حادث أليم بألبا العام 1973، حينما كان يقول«تشرق الشمس لنا غدا نحن الطبقة العاملة، نعبث كالدود بين الآلات... كل ينتظر موته/ وفي الليل نغني شعرا للثورة!..».
ومن ثم تتاح لك بعدها بمتابعة فصول وصفحات الكتاب الفرصة في أن تمخر عباب الذاكرة العمالية الممزوجة بالملح والدم والعرق في صحبة ربان سفينة هو عبدالله مطيويع، الذي يبدأ معك من ضفاف بدايات النشاط المطلبي النقابي في العام 1938 بشركة نفط البحرين (بابكو) في عهد الاحتلال البريطاني، حيث اندلع الإضراب الشهير عن العمل في صباح يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 1938، والذي رفع فيه العمال مطالب من أبرزها «أن لا تقل أجرة العامل العادي عن أربع روبيات يوميا، وأن يدفع للعمال أجر يوم عمل في العطلات إن كانت عطلة نهاية الأسبوع أو عطلات الأعياد، وأن تيسر لكل العمال مواصلات تنقلهم من البيت إلى العمل وبالعكس، أسوة بالعمال الأجانب، وأن يتقاضى مشرف العمال 10 روبيات في اليوم أسوة بالمشرفين الأجانب (الإنجليز والهنود)، أن لا يعامل العمال بقسوة ويضربون من قبل رئيسهم، وإذا أصيب العامل إصابة في العمل فإن من حقه أن يتقاضى أجره حتى يتعافى» وغيرها من أبسط الحقوق العمالية التي تم تطويرها لتشتمل على مطالبات الحركة الوطنية الإصلاحية في العشرينات من القرن الماضي مثل «إنشاء مجلس تشريعي، وإعطاء أبناء البحرين أفضلية التعيين في شركة النفط، والسماح بإنشاء النقابات، وتحديد ساعات العمل ووضع قانون عام ينظم شئون العمل والعمال»!
حتى يمر بك البانوش العمالي قرب شطآن الخمسينيات المتوقدة في البحرين إبان العصر الذهبي للروح البحرينية الوطنية في عهد هيئة الاتحاد الوطني التي وضعت مطلب «السماح بتأليف نقابة للعمال ونقابات لأصحاب المهن الحرة تعرض قوانينها ولوائحها على المجلس التشريعي لإقرارها» ضمن أبرز مطالبها الإصلاحية المرفوعة شعبيا لأعلى القيادات بالدولة.
وتمثل بعدها أمامك انتفاضة 1965 الكبرى والتي اندلعت في ظل تداخل محلي وإقليمي بين أسباب وظروف موضوعية موجبة ربما كان لها أن تحمر خجلا أمام تشابك واعتلاج الظروف المحلية والإقليمية الموجبة لاشتهاء الحريق في أيامنا هذه!
حتى إذا ما تعثر بك «البانوش» باجتياز ذاكرة القمع والاستباحة، تجد نفسك أمام مواجهة ظروف ولادة اللجنة التأسيسية للنقابات العمالية، ودوائر الملاحقات والتواطؤ بين أرباب العمل والجهات الأمنية في قمع وإخماد تلك التحركات.
حتى يحدوك الأمل الفطري بالنجاة والسلامة في رحلة المخاضات الطويلة والمريرة تلك، والتي اختارتك فيها إرادة وعناية ما لأن تكون ضيفا على عبدالله مطيويع وهو يسردها لك باستذكار متأجج، فإن الكنز القيم لا يلقى ويلفظ لك من عباب الذاكرة، وإنما يفتح أمامك في صندوق نحاسي عتيق، وثائق وملفات، ومحاضر ومدونات تجسد لك صورا و«سكيتشات» مهمة من تلك الذاكرة المحرم احتضانها، وإطفاء مرارة أشواقها ببلسم الكرامة والحرية والمساواة!
ولعل ما دار مترنحا على حافة الوعي النزق بداخلي، وأنا على وشك اختتام هذا السفر العمالي التاريخي الجدير بالاطلاع والقراءة، هو ذاك التساؤل عن ما يمكن أن تمثله أية انطلاقة متجددة للعمل النقابي من جدوى فاعلة في تخفيت أو امحاء الخطوط الطائفية الحادة والعمياء التي رسمها الواقع المحلي والإقليمي المتردي في «سياسويته»، وسبل توحيد نضال الشعب البحراني المتمدن على مطالب وحقوق مشروعة تحمل راية همه الوطني، عوضا عن الخضوع لاستجداء ثقافة وقيم التسول والتوسل من صناديق خيرية طائفية.
دار بي أخيرا التساؤل الفج وطارد كالذئب الأغبر أغنام الوعي واللاوعي في سهوب النفس، وتوقف بي أخيرا أمام جسد مؤسساتي لايزل مرتعشا نابضا، وقد ثقب في وسطه ثقبا بالغا بين نصفيه الاقتصادي والسياسي، وقد بدا على ذلك الثقب أو قل تبجيلا الفجوة تقرحات تنز ألما ودما، وكأنها لا توشك أن تندمل لكونها تنزف بإلحاح متواصل، فمتى تسد أو ترمم أو ترقع تلك الفجوة النقابية بين اشتداد وارتواء الاقتصادي الواعد، ونحالة وهزال وجفاف السياسي والتشريعي المتجلد صمتا؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1672 - الأربعاء 04 أبريل 2007م الموافق 16 ربيع الاول 1428هـ