إن حصر إنتاج أدب المنفى في تيار ايديولوجي أو بلد معين أو طائفة مذهبية تقليلٌ من أهميته في كونه أدبا إنسانيا على صعيد المحتوى وجنسا أدبيا على صعيد التعبير. لقد وصل بالناقد جورج شتاينر إلى حد اقتراح أطروحة ثاقبة مفادها أن أدب «المهجر» يمثل جنسا قائما بذاته بين الأجناس الأدبية في القرن العشرين. أدب كتبه المنفيون وعن المنفيين، ويرمز إلى عصر اللاجئين. وهذا ما يشير إليه شتاينر بقوله: «يبدو صحيحا أن أولئك الذين يبدعون الفن في حضارة شبه بربرية، جعلت الكثيرين بلا وطن، لابد أن يكونوا هم أنفسهم شعراء مشردين ومترحلين عبر حدود اللغة. شذاذا، متحفظين، نوستالجيين، في غير أوانهم عمدا». ومن ثم تغدو وظائفه السيميائية ذات منحى دلالي مفتوح ينماز بتنوع تيماته وإشاراته وطرائق تعبيره، وتخطيه ضرورات المذهبية والانجذابات العرقية والأنساب القبيلة. انه كتابة تتضمن علاماته دلالات الغربة والقهر والقمع والاستبداد والنفي. ومن ثم الحنين إلى الأوطان والتعطش للحرية والعيش في كنف الكرامة والمواطنة.
إن كتابة المنفى نسق سيميائي دال بمشمولاته المادية وإشعاعاته الروحية. ويمتلك هذا الأدب بعنفه الجمالي قدرة على تأسيس لغة متسمة بسواد الحداد وحساسية مفرطة في القلق والحزن والخوف، ولكن الأديب المنفي يقاوم هذا المصير الدراماتيكي بالصراخ التطهيري في وجه جبروت الصمت المخيف مستعينا بسلطان الذاكرة وجسارة اللغة. وكلاهما ينتج دلالات رمزية مفتوحة تجسدها رهانات اللغة خصوصا. ويكاد يعبّر هذا الأدب عن تعالق فريد بين الكتابة والألم بما يحمله هذا الألم من جوانب باتولوجية ونفسية وجمالية. فهو يعكس علامات الوجع الفارقة في كتابة المنفيين والنوستالجيا المتضخمة، على رغم إدراكنا الواعي بأن الألم ظاهرة راسخة في الكينونة الإنسانية فإنها أنتجت في هذه الحالات القصوى أدبا يتفرد بلغته وبأسلوبه وبتيماته وبرؤيته لصيرورة الأشياء. وذلك ما تستظهره بلاغة المحكي في كتابة المنفى من جروح غائرة في أنفس الأدباء والكتاب والفنانين الذين أخرجوا من ديارهم وأكرهوا على مغادرة أوطانهم. ولكن، كيف نفسِّر ظاهرة الانتقال من أدب النضال والتحريض حينما يُنفى الكاتب في الطور الأول من حياته خارج وطنه إلى طورٍ آخرَ يكتسب فيه هذا الكاتب جنسية البلد الذي آواه، وأكسبه حق المواطنة، فتحوّل أدبه من كتابة النضال إلى كتابة الاختلاف؟
*مفكر جزائري
العدد 1672 - الأربعاء 04 أبريل 2007م الموافق 16 ربيع الاول 1428هـ