سنختلف في ملف «الأدب والمنفى»، وستتعمق خلافاتنا بشأن المفهوم أولا، وبشأن ما يختبئ وراء هذا الإطلاق بشأن «المنفى» ثانيا. وقبل أن تتكون لديك هذه الحال فقد تكونت أضعافها بين من كانت ردهات فندق الريتز كارلتون الدوحة تجمعهم بالألفة والمحبة لتتحول الأمور داخل قاعة الوسيل إلى نقيضها. إلا أن ذلك لا يمنع البتة من أن يعاود المختلفون الجلوس على الطاولة نفسها بود وحب لمناقشة تسمية جديدة يدعو من خلالها كمال أبوديب إلى استبدال مسمى «الرواية» بتسمية جديدة تضاف إلى سلسلة تسمياته الكبرى، إنها «الإفتراء».
الإختلاف والتخالف بشأن حالة/ ظاهرة/ موضوعة يُطلق عليها إسم «المنفى» كان من أثمن ما خرجت به الدوحة في مهرجانها بنسخته السادسة. وكان لعبدالله ابراهيم أن يجمع أحد عشر مبدعا عربيا في ضيافة الدوحة للحوار والمناقشة بشأن هذا الملف. «الدوحة... ملتقى الثقافات» جمع أحد عشر شخصية لكل واحدة منها سيرتها/ زاويتها/ تجربتها/ فهمها/ زعمها للمنفى والمنفي. وتأتي هذه الندوة التي نظمها المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بدولة قطر الشقيقة بمنتوج يستحق أن نفرد له هذه المساحة من الرصد والسبر والتحليل.
وعلى أن نقاشات عدة قد دارت في ردهات الدوحة بشأن المنفى وأدب المنفى، أجد أن نتائج عدة خرج بها المنتدون في العاصمة القطرية. وليست المحصلة «قياسية» بقدر ما كانت الأوراق والأفكار المطروحة أبوابا جديدة تستحق البحث والمتابعة. أولى حوارات الندوة كانت برعاية رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث القطري الشيخ مشعل بن جاسم آل ثاني، وألقى خلالها الأمين العام للمجلس الأستاذ مبارك بن ناصر آل خليفة كلمة الإفتتاح لتبدأ بعدها الأوراق والأفكار مترادفة تارة ومتقاطعة بهدوء وحدية تارة أخرى.
المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث كرم الضيوف الكبار في اليوم الثالث من الندوة، لتختتم الندوة أعمالها على أن باب المثاقفة/ المماحكة/ المساءلة في المنفى كان لا يزال مفتوحا للإضافة والتعليق.
على عتبات المفهوم... الأدب والمنفى
ما بين المنفى المفروض على الجماعات الثقافية والعرقية باتجاه الغرب ومنفى الإستشراق. يحاول الناقد الأردني فخري صالح أن يضع تعريفات ومحددات لمفهوم أدب المنفى الذي يعتبره مفهوما مشكلا وأساسيا لما يسمى في النظريات الحديثة بـ «آداب ما بعد الإستعمار». ويبرز المنفى هنا من بين المعايير الأساسية التي يقوم النقاد بقياس هذه الآداب بالإعتماد عليها.
يؤكد فخري صالح على أن المساحات الرمادية بين المنفي والمغترب تبدو شاسعة، وأن الوطن بين هذه النزاعات والإغترابات يبقى موضع السؤال الرئيسي. المنفى يتأرجح بين أن يكون ذلك المرفوض والمرغوب معا، وهذه الحال المتناقضة تعطي للمنفى فضاءه الواسع والمتشعب. ويبقى التمييز بين المنفى والإغتراب لا يعتبر تاما أو مكتملا في هذا الفضاء الشائك. واقع الحال، أنه لا يمكن تصوير شبكة محددة لمفهوم المنفى في عمق هذه الحوادث المتراكمة.
أفرد صالح للحال الفلسطينية مساحة كافية من التحليل موظفا إياها بمثابة الأنموذج الذي حاول من خلاله الوصول لتبيئة متكاملة لمفهوم المنفى. ويؤكد صالح «أن المنفى على رغم كونه نتاج شرط تاريخي محدد وأثرا لتجربة عميقة من الفقد وصدع الهوية، فإنه يتحول إلى مجاز للفقد والخسارة، وإلى تعبير عن السقوط في بئر اللاعودة». وهو ما «يذكرنا بشعريات المنفى التي نرتطم بها بصورة متواصلة في تجربة محمود درويش، وسيكون لإدوارد سعيد في هذا السياق القول الفصل إذ يحدد المنفيين بأنهم «المقطوعون عن جذورهم، عن أرضهم وماضيهم. انهم في العادة بلا جيوش أو دول، لكنهم في حال بحث عنها. لذلك يشعر المنفيون بالحاجة الملحة ليعيدوا تشكيل حياتهم المدمرة من خلال رؤية أنفسهم كجزء من أيديولوجيا ظافرة أو أمة حية».
ويتناول صالح مجاز المنفى فيدعو إلى حتمية إعادة تعريف مفهوم المثقف. إذ أن المنفى يدخل في «تعريف المثقف ويصير المعنى المجازي للمنفى شكلا من أشكال الوظيفة الرسالية، وهو ما يتوافق مع تصنيف جان محمد عبدول لأنواع المثقفين الذين يسميهم عبدول بمثقفي الحدود (border intellectuals). ويفرق عبدول بين المثقف «المنفي» والمثقف «المهاجر» والمثقف «الكولونيالي» والمثقف «الأنثربولوجي» ولكل واحد منهم موقفه الخاص من ثقافته الأصلية والثقافة المضيفة التي إنتقل إليها.
ويلخص فخري مداخلته في تعريف مفهوم أدب المنفى بأنه «خضع خلال الربع الأخير من القرن العشرين لتحولات وتعديلات عدة، حيث غادر معناه اللغوي، الذي يجعل منه دالا على أدب الغربة والهجرة والإقتلاع والنفي والتشرد ليصبح تجربة مجازية تدل على النظر بعيون جديدة إلى العالم وتجارب البشر وتفاعل الثقافات، ومفهوم الحرية، والرؤية غير المتحيزة، والابتعاد عن مفهوم الهوية المغلقة، وطرح مفاهيم مثل الأصل والقومية والآداب الوطنية على بساط البحث مجددا».
ويؤكد صالح أن المنفى قد يتحول إلى لغة، وهي الحال لدى أدونيس بإمتياز، ويمكن القول إن إدوارد سعيد يعتقد أن للمنفى طاقة محررة. وهو ما يتصل بما يسميه سعيد نفسه «الكرة الطباقية». يدعو صالح إلى تجاوز الضيق الذي تفرضه الدلالات القاموسية التقليدية لأدب المنفى إلى الدخول في العوالم الحقيقية له، والتي باتت تتوافق مع إطلاق عام مفاده أن القرن العشرين كان يتصف بأنه قرن المنفيين بإمتياز.
حقلنة أدب المنفى الانجلوسكسونية
الأكاديمية والمترجمة العراقية فريال غزول تذهب إلى حقلنة أدب المنفى - بإتجاه نظرية الحقل لبيير بورديو - في تصنيف يتصف بالصرامة الأنجلوسكسونية. لتضع من خلال هذه الصرامة أدب المنفى في قبالة آداب أخرى كأدب السجون وأدب المقاومة. وتستطرد فريال في إستقطاع تجربة إدوارد سعيد ورؤيته للمنفى لتحاول تأثيث منتوجها/رؤيتها/تأويلها في الموضوعة ذات الشأن.
حاولت المصرية فريال تأطير حال من التبرير لتبيئة(postioning) أدب المنفى في سياق الأجناس الأدبية الإعتيادية، وتنتصر فريال لأدب المنفى بإعتباره مهتما بالمكان أكثر من إهتمامه بالتاريخ. كما أنه يهتم بالكناية أكثر من الاستعارة. والإنقطاع بين ما هو كان وما هو كائن. لذلك، لا يمكن الربط بين الغائب والحاضر على أساس التشاغب لأن الأديب المنفي لا يمكن أن يتخلص من طفولته ونشأته مهما حاول ذلك. وبالتالي تعتمد استراتيجية الربط على الكناية أو الإزاحة، بحسب غزول. وترهن غزول المنفى بتخالف الثقافة واللغة، فتقول مستدركة «إن المنفى هو الإنتقال لثقافة مغايرة ولغة جديدة. فأنا عراقية أعيش في مصر وليس هذا منفى». فالمنفي عند غزول هو من «تم إقتلاعه من ثقافته ووضعه في مكان مختلف».
إذا، تذهب غزول إلى أن أدب المنفى هو أدب مفارق بالضرورة، فالأديب المنفي مبعد عن وطنه، لكنه في مستوى آخر يقترب من الوطن أكثر، وهنا تكمن المفارقة. فبعد أن «كنا نقيم في ا لعراق الوطن أصبح العراق الوطن يقيم فينا، رحلنا عنه إلا أنه رحل فينا. وما يصح على العراق يصح على كل شبر من الوطن المغيب».
وتضيف فريال قائلة : «أدب المنفى هو أدب طباقي بإمتياز، يرى الأنا والآخر، يرى الشيء وضده، وبالتالي رضي أديب المنفى أم أبى، هو يقترب من النزعة الصوفية. هو أدب يسمح بل يحفز على قراءات متضاربة وتفسيرات مختلفة لأنه يحتوي على وجوه متضادة ومتعددة ومتناسلة. هو أدب يرفض الواحدية والصوت الواحد، فتجربة المنفى لا يمكن أن تقتصر على نمط واحد بل هي تقدم روئ متخالفة». وبالضرورة غير المطلقة - إذ تستدرك فريال إطلاقها الثاني - يبدو أدب المنفى لديها أدبا حداثيا بالضرورة، وبغض النظر عن عصر كتابته. أدونيس مثلا، يفسخ العلاقة بين الحداثة والزمان والمكان، فالحداثة بالنسبة له هي الطاقة الإبداعية التي تمنح القارئ عملا مستفزا بكل المعايير، ولابد للقارئ «أن يجتهد حتى يحصل المعنى. ولا أعني أن كل أدب المنفى هو أدب حداثي، فهناك من استغرق في الماضي وأغرق فيه. هذا الأديب ليس أديبا منفيا بقدر ما هو أديب منعزل».
واسيني الأعرج وقرآنه المزيف...
لا يملك واسيني الأعرج تعريفا محددا للمنفى، ولا يدري حتى إن كان حالة صحية أو مرضية. يبدو المنفى بالنسبة له بمثابة الفضاء المفتوح للكتابة. واسيني عرض مشاهداته الأخيرة في لحظات الوداع الأخير للراحل الجزائري محمد ديب في فرنسا الذي ناضل من أجل وطن يعتقد واسيني الأعرج أنه «خذله». تراجيديا المنفى لدى واسيني هي أنه «لا يعطيك وقتا للتفكير» أو حتى لمراجعة الأوراق من جديد.
يعدد واسيني خساراته، وتبدو قريته منفاه الأول أو خسارته الأولى. إذ لا يحتفظ من ذكرى والده إلا بإبتسامته عائدا من منفاه الصغير في فرنسا للعمل. محاوراته مع أبيه وتراجيديا المنشفة التي كان واسيني يضعها على «رأسه» حين يتكلم كانت تحمل معها دلالات المنفى الأولى لديه. ويسرد «واسيني» قصة طفولته الدينية مع أول كتاب أذهله وهو الجزء الأول «من ألف ليلة وليلة» الذي عثر عليه في المسجد حيث كان من المفترض أن يدرس فيه روائينا العربية وحفظ القرآن الكريم.
يعتقد واسيني الأعرج أنه خاسر في رهان المنفى، إذ يبدو الرهان في المنفى بالنسبة له كالرهان على الكتابة. يقول : «أستطيع اليوم وبعد خمسين سنة من العمر وربع قرن من من الكتابة أن أقول إن رهان المنفى مثل رهان الكتابة خاسر في كل شيء إلا في جوهره الأبدي: الحرية». ولماذا يخسر واسيني في المنفى؟، يخسر لأن المنفى سرق منه ما تبقى من عفويته واغتصب طفولته في وقت مبكر، ولانه وضع حائلا بينه وبين أهله. يقول : «كان عليّ أن احذر وأحافظ على أسم العائلة ولا أحتفظ إلا بإسمي الشخصي لأنه ملكي، لم تكن العائلة مضطرة أن تتحمل حماقاتي وجنوني ككاتب. خصوصا في الفترة التي أصبح فيها القتل الأعمى عملا يوميا».
يعود واسيني لمرآته المضببة بانفاسه، يقول في ذلك الموقف «يتحول وجهك إلى غيمة هاربة قبل أن تتضح ملامحه، تدرك فجأة أن المنفى لم يكن فقط خسارات متتالية. تشعر به عمرا مضافا إذ كان يفترض أن تموت قبل ذلك بكثير. وأنت تعرف جيدا أن أكثر الأصدقاء تفاؤلا لم يكن يعطيك أكثر من عمر حشرة، ناموسة أو فراشة، من شهر إلى سنة، في سنوات الظلام الأولى. الصدفة هذه المرة كذلك أنقذتني». ويضيف «غريب أن يقرأ الإنسان خبر موته في الجرائد الوطنية ويسمعه في إذاعة ميدي الدولية المغربية الفرنسية وفرانس أنفو الفرنسية ... أسترجع مانشيت خبر إغتيالي كما قرأته في «جريدة النصر» اليومية التي تصدر بقسطينة: إغتيال الروائي الجزائري واسيني الأعرج. أشعر في البداية بشيء من الزهو ثم ينتابني خوف عميق. أول شيء قمت به هو إخبار أهلي، أمي خصوصا وتكذيب الخبر وطمأنة كل الأصدقاء الذين كانوا يعرفون مكان إقامتي. أشعر دائما بأن هناك رجلا حماني بصدره ليمنحني كل هذا الزمن وأنا مدين له بالرغم من انه لا يدري لماذا قتل بالضبط؟، الرجل الذي قتل، اعتقد خطأ، كان موظفا بسيطا في الأمم المتحدة، يمر كل صباح بالقرب من الجامعة قبل أن يذهب نحو عمله. كان أسمه: واسيني الأحرش. لم يكن يعرف وهو يخرج في الصباح، أنه سيقتل في مكان رجل آخر. كم أشتهي أن يمنحني الله بعض العمر لأقف فقط على قبره قليلا وأعتذر منه، لأن الأقدار التي وضعته أمامي ليقي صدري من الرصاص القاتل، لم تسأله في ذك الصباح عن رأيه». لذلك يظهر المنفى لدى واسيني الأعرج بمثابة العمر المضاف. يقول واسيني: «صحيح أنني خسرت أرضا جرحت ذاكرتي، ولكني ربحت وطنا عظيما، هو وطن الكتابة. أرضي الوحيدة والنهائية. وحدها الأصدق وحدها الأبقى عندما ينكرك الأخرون».
نبيل سليمان... الرواية والمنفى
الروائي والناقد السوري نبيل سليمان إستعرض رواية المنفى. وضمت مختاراته الروائية منتوج فرنسيس المراش وغادة السمان وحنا مينة وخليل النعيمي وآخرين. ولقد خلص سليمان إلى نتائج عامة تحكم الإطار العام لرواية المنفى، وهي:
تظل الاستراتييجة السيرية هي الرهان الأكبر لرواية المنفى، حتى حينما يكون الرهان الآخر على إستراتيجية اللاتعيين قائما. والأمر نفسه يصح حين يكون النفي طوعيا، ومثلما يصح الرهان على إستراتيجية اللاتعيين، حين يكون النفي قسريا كما في رواية (عبدالله التلالي).
بين الكتاب المنفيين من كتب في منفاه روايات، لا شأن لها بالمنفى مثل عبدالرحمن منيف وسليم بركات.
في رواية المنفى الرعبية خصوصيتان، يكون المنفى في أولاهما بلدا عربيا آخر غير بلد المنفي، كما رأينا في رواية غالب هلسا (الروائيون) وكما هو الأمر في غالبية ماكتب. أما الخصوصية الثانية فتتصل بالرواية الفلسطينية التي تكتب في الشتات - المنافي، وبالرواية الفلسطينية التي تكتب فيما عدا من فلسطين (دولة إسرائيل) كحالة نموذج للنفي في الوطن. أما خصوصية رواية المنفي العربي فتتبدى بدرجة أكبر فأكبر في انخراط المنفي في حياة المنفى، ما لا يتحقق في المنفى غير العربي، او يتحقق بأشكال أخرى. ولعل حضور المرأة في الرواية المعنية خير ما يدلل على ذلك.
لقد كانت المرأة العربية هي الحاضرة بقوة أو وحيدة في الكثير من روايات المنفى منها المرتجى والمؤجل/ طائر الحوم/ عودة الذئب من العرتوق.
تعصف النوسالتجيا برواية المنفى، ما جعل تقنية الاسترجاع غالبة.
التغيرات الفكرية والجسدية للمنفي في روايات المنفى غالبا ما تتجه نحو العطب والتدمير.
تنتهي غالبية روايات المنفى للتجربة الحداثية العربية.
ويخلص نبيل سليمان إلى أن المنفى عاد بلوى بالنعمة على الرواية العربية. وتساءل سليمان: لولا المنفى الطوعي والقسري هل كان للرواية العربية أن تعرف قامات كبرى كمنيف وبركات.
«منسلخ» كمال أبو ديب
يبدأ الناقد السوري كمال أبوديب ورقته في الأدب والمنفى ببيان ما ننفى عنه، إنه هاجس اللغة لدى أبوديب. يقول: «أوليس عجيبا أن اللغة، بل اللغات، لها وسم للمنفى لكن ليس لها وسم لما ننفى منه، عنه؟» ويجب أبو ديب على تساؤله «بلي إنه لعجيب، وأنا سأسد هذه الثغرة الوسمية، المصطلحية بابتكار وسم لما ننفى عنه: hسمه الآن وسم من يقول للشيء: كن فيكون. ما ننفى عنه هو المنسلخ».
ويحصر كمال أبو ديب مستويات الإحساس بالنفي والتي تتضاعف في هيئة مادية فيزيائية إلى أربع مستويات. المستوى الأول هو «نفي الإنسان عن، من نفسه». والمستوى الثاني هو «نفي الإنسان عن، من القبيلة - كتعبير عن الجماعة - ولنفي الإنسان عن القبيلة مستويان: الأول النفي الداخلي، ضمن المجموعة البشرية ودون فقدان أو إنسلاخ عن المكان. والثاني النفي الخارجي، الذي يسلخ الإنسان عن القبيلة والمكان. ولكليهما مرارة وقسوة تجعل المفاضلة بينهما أمرا صعبا». أما المستوى الثالث فهو «نفي الإنسان عن، من الموطن والمقام والديار. ولهذا النفي أيضا مستويان: داخلي وخارجي. أي ضمن الفضاء الواحد (الوطن مثلا) وخارج هذا الفضاء». والمستوى الرابع والأخير هو «نفي الإنسان عن، من العالم».
ويقرأ ابو ديب النفي والمنفي في صورة مضاعفة «مثنى وثلاث - أحيانا - لتجربة نفي أصيلة تكفن وجود الأنسان بمجرد ولوجه للعالم، خروجه إليه». وقد يظهر المنفى بوصفه «المكافأة العظمى لتحرير الإنسان لنفسه من قيود الطاعة وكلاكل إذعانه السلبي للمشيئة الإلهية».
قدم أبو ديب سبرا رفيعا لمستويات النفي الأربعة بزواياها الداخلية والخارجية. وفي موضوعة الاستجابة لتجربة النفي يبين المحاضر أن مستويات الاستجابة تتباين تباينا بالغا، لكنه يستدرك «لكن تباينها لا يزال يسمح باكتناه شعريات مكونة لها من حيث هي بنية متميزة عن غيرها من بنى فاعلية الوجود الإنساني في العالم. أول هذه الإستجابة التوتر الذي ينشحن برهبة الاغتراب من المنسلخ، وبخوف المجهول واللامكتنه. وثانيها قلق الرحلة ذاتها، وثالثها التباس لحظة الوصول والتماس مع المنفى ثم الولوج إليه والإنغراق فيه».
ويختتم أبو ديب ورقته بالإشارة إلى أن بعضا من أجمل ما في الآداب العالمية أنتج في المنافي، سواء في الشعر أو في غيره من الفنون، وأن هذه الحقيقة جديرة بالبحث. يقول: «لماذا ينتج النفي كل هذه الحيوية والطاقة، وكل هذا البهاء؟». ويضيف «ويعيدني ذلك إلى نقطة البدء، أولم يؤدَّ تصور الإنسان لنفسه منفيا من جنة الله إلى توليد كل ما نمكله الآن من معرفة؟ بل أولم يؤَّد إلى كل ما نحن الآن، وكل ما كان وما هو كائن وما سيكون؟، بلى، وأيم الحق، بلى».
اليوسفي والشعر والمنفى
يعرض أستاذ الأدب العربي محمد لطفي اليوسفي العلاقة بين اللغة والفردوس والمنفى التي يصفها بالـ «السرية» في سياق أنه «في البدء كان الفردوس حيث خلق الإنسان ووهب اللغة أشد المقتنيات خطرا وأكثرها مضاء وبهاء. وباللغة سمى الإنسان الكائنات كلها والموجودات جميعها دعاها بإسمها. ثم كانت الخطيئة وكان الطرد من الفردوس. نفي الإنسان في برية الفناء ولم يبق بين يديه من طيبات الفردوس شيء غير اللغة. باللغة سيكتشف العالم ويسميه. وباللغة سيحضر في التاريخ».
اللاوعي الجمعي العربي عبر هذا البعد الأسطوري لأنطولوجية اللغة هو الذي جعل العرب يمجدون لغتهم ويعدونها بيت العرب، إذ تمثل اللغة في اللاوعي «هبة مقدسة، وهي آخر ما تبقى. لكنها هبة تبقى بين يدي الكائن من طيبات فردوس البداية. لكنها هبة تظل تذّكر المرء، بأن طريقه سرية، بأنه طريد ومنفي».
اللغة هي التي تمد الكائن بالمقدرة «على مواجهة رعب الوجود وتوسيع دائرة الخلاص». اللغة في لا وعي المبدع العربي هي «مأوى» و»منفى». المنفى من جهة كونه مكان الإنتفاء لا يمثل الانتقال من «الأليف» إلى «المجهول» بل هو فوضى عارمة تضع الكائن في حضرة رعب الوجود.
ورقة اليوسفي إستعرضت تجربة محمود درويش، وخلص المفكر التونسي إلى أن تجربة المنفى بالنسبة لدرويش لا تتمثل كـ «محنة يمكن ان تدمر الذات والهوية، لكنها تحولت إلى معين ظل ينهل منه ليثري تجربته الإبداعية وصارت بمثابة قانون من القوانين التي عليها جريان الممارسة الشعرية». يظهر المنفى بالنسبة لما يؤطره اليوسفي كموضوعة لا تتعلق بالمكانية فحسب، بل انها قد تنتهي بأن يشهد المنفي نوعا من التحول، ذلك حين يختار الشاعر الانتقال إلى العالم اللغوي. وهنا سرعان ما تجعله الكلمات في حضرة عدمه الخاص أو المنفى الأبدي، بحسب تعبيره.
أدونيس... بوصفه منفي ثقافته/مجتمعه
يتساءل أدونيس في البدء عن مدى معرفة الدول العربية بالنفي السياسي. الإجابة لدى أدونيس هي نفي ذلك. فالذين هاجروا ليسوا في إطار المنفى، إنه الخروج من مرحلة الإنسان الجماعة إلى مرحلة الإنسان الفرد. وهي الانعتاق من التقليد إلى الإنتاج والحرية.
المنفى عند أدونيس هو تحد للمخاطر ورفض للطغيان. والمنفيون هم دائما أولئك الذيم يفضلون البقاء في بلدان المنفى عوض العودة إلى ديارهم. إذ يمثل المنفى الصراط الإنساني الحقيقي لذواتهم.
إن غياب النفي سياسيا بحكم تصدره السلطة ظاهرة تستدعي التأمل لأنها تشير إلى أن فكرة الحرية ليست قائمة أو عضوية في الحياة العربية، فالفرد ليس سيد مصيره عربيا، بل الجماعة هي الوجود الحقيقي ومعياره، يظهر الفرد هنا بما لا يزيد عن البرعم، والجماعة هم الشجرة الكبرى. تتجلى هنا عبارة «من قال في الدين برأيه فهو مخطئ ولو أصاب» يؤكد أدونيس إطلاقته بهذه العبارات، ويهرب.
يلفظ الفرد من الأمة بوصفه مرضا أو كفرا، إذ ليس له أنا أو ذاتية معينة، يخرج عن سياق المجتمع، لا تقبل الجماعة شخصا كنيتشه أو رامبو إذ يقول الشخص حقيقته «هو» لا الحقيقة التي تسعى الجماعة إلى ترويجها. وبحسب أدونيس فإن الجماعة لا ترى الفرد إلا من منظور دينه، بل الدين هو من يتكلم، فلا ذاتية للفرد أصلا. فالإنسان العربي بالنتيجة يولد منفيا، لذلك عليه أن يتحرر من المنفى مركبا، منفى التراث ومنفى المؤسسة القائمة على التراث نفسه. ليس النظام هو الذي يتبع واقع البلاد، بل البلاد هي التي تتبع واقع النظام. لقد غير النظام العربي معايير المواطنية، ولقد غيرت إدارة الحرية واقع الوطن والمنفى. بقد صار المنفى مكانا للحرية وممارسة شتى النشاطات الإبداعية. على أن أدونيس لا يقر بضرورة أن يكون المنفى مكانيا بالضرورة، بل قد يكون منفا لغويا أو غير ذلك.
مكان مولد أدونيس هو مكان منفاه الأول، راودته أحلام الهجرة من القرية، وفعل ذلك. وكان له ان يخرج من أسم «علي» إلى إسم «أدونيس» هذا الخروج يقول عنه أدونيس أنه «تم بأسلحة الآخر الذي يقطن فيه». إسم ادونيس عمق منفى أدونيس أكثر وأكثر. وبدت الأشياء كما أنها تسير داخل شيء منظم لا علاقة لأدونيس به لكنها تحاصره كالسلطة أينمكا وكيفما اتجه. الجميع حاصروا أدونيس، حتى الأخلاق تحولت إلى مؤسسة كبيرة للنفاق وبدأت تحاصره، يبدو «النظام من أجل إذلال الإنسان» هذا جوهر السلطة بالنسبة لأدونيس. ولا فرق بين أي طرف، وإذا كان ثمة فرق، فالفرق في المستوى لا النوع.
سأل أدونيس سؤال المعنى، ما معنى أن يكون الإنسان سوريا أو عربيا، المنفى بالنسبة له ليس في الخارج بل في الداخل. تغيير الأمكنة لا يؤثر في المنفى، المنفى مرتبط بالثقافة، أدونيس منفي من الثقافة وفيها. عايش أدونيس هوس السؤال، وحاول معايشة أسئلة عدة، ما معنى أن يكون أدونيس سوريا مثلا؟، لم يجب.
كان على أدونيس حتى يكون نفسه أن ينفي نفسه. وفيما أخذ هذا المكان الآخر كان رفقاء أدونيس شعراء ومفكرين يشتغلون من دون أن يطرحوا ذات الأسئلة، إنقطع عن مركز اللغة ومركز الثقافة الذي يعيش أصدقاؤه فيه، خلق أدونيس لنفسه منفاه. هذا الذي لم يقله أدونيس صراحة وبوضوح كعادته.
يصر أدونيس على الولوج في «النص» الذي اخترقه. يقول إن النص الديني الإسلامي لا ينفصل عن سياقات النص التوراتي أو الإنجيلي، لكن المظهر الأكثر تعقيدا، هو أن النصوص اليهودية حصلت على عقول خلاقة أعادت قراءتها، وهكذا ابتكرت هذه النصوص شرعها المدني دون أن تسيء إلى الإيمان الديني، لذلك تحقق النهوض في الغرب. ويبدأ بعدها أدونيس وصاياه الرسولية، يقول «على المسلم أن يقرأ القرآن بصفته نصا ثقافيا محصلا للحضارات والثقافات السابقة».
إن الداخل الذي ينتمي إليه أدونيس منفى لا ينتمي هو له، هو ما بين ماض أسس للظلم والقهر ومستقبل مجهول لا يعرفه، هو يحسب نفسه معلقا في المنتصف ينتظر نهاية المطاف، الشعر بالنسبة له بات أكثر من الشعر، هو فضاء تلتطم فيه أشياء عدة، الشعر لديه بات أشبه بالأسطورة، أضاء من خلاله منفاه الإختياري الإجباري. ولهذا، يشعر أدونيس أن المنفى هو المحرك الرئيسي للإنسان، إذ يقوم بتوظيف الإبداعات والطاقات. فالإنسان يبتكر منفاه كما يبتكر وطنه. ولكأن البلدان الأجنبية تتيح وطنية عالية أكثر من الوطن، إن الذات تولد هي الأخرى في الآخر. المكان الآخر وراء التخوم فيما وراء المنفى والوطن. وتبدو اللغة في المحصلة هي مدار المكان ومادة المعنى وفضاء التمرد وسماء الحرية. يبدو المنفى حاضرا في المنفى. المنفى ليس شيئا أضيف لحياة أدونيس، بل هو حياة أدونيس نفسه.
فيصل دراج... السيرة الذاتية والمنفى
الكاتب والناقد الفلسطيني فيصل دراج تناول السيرة الذاتية والمنفى إذ أشار في مقدمة ورقته إلى أن السيرة الذاتية لا تأتي إلا بعد أن يكون الإنسان مؤمنا بأن لا جديد سيأتيه، مشيرا إلى أن كتابة السيرة لا تكون إلا عن زمن مضى إلى غير رجعة. وبين دراج أن السيرة الذاتية غالبا ما تتضمن موضوعات على شاكلة النضال السياسي والحب وقد يكون المنفى موضوعة رئيسية في السيرة.
أهم الملاحظات التي أوردها دراج هي تغييب الاحتفال بالزمن الذاتي/ الشخصي/ الحميمي للمنفيين في سيرهم. ووجد دراج أن هذه الفترة تعتبر بمثابة الزمن المهمش في السيرة الذاتية العربية ربما بسبب ما أسماه بـ «التحرش» أو «الرقابة الذاتية». فهذا الزمن الحميمي يبدو زمنا حقيرا لذلك تتجه السيرة وبشكل مباشر إلى زمن الجماعة التي تحتل مكانة محترمة وموقرة.
وأشار دراج إلى تجرية عبدالرحمن بدوي في «سيرة حياتي» إذ تظهر صورة الطالب النجيب الذي ينتقل من ثقافة لأخرى إلا أن الكتاب لا يمثل سيرة ذاتية، وهناك أيضا أكرم حوراني الذي يعطي الزمن الشخصي/ الحميمي 15 صفحة من أصل كتابه الممتد في أربعة أجزاء على أكثر من 4000 صفحة.
يعطي فيصل دراج لطه حسين مكانة معتبرة من أدب السيرة في كتابة «الأيام» الذي يعتبره ردة فعل على ما لقيه طه حسين من انتقاد شديد بعد كتابته لـ «الأزهر». ويفكك دراج تيمة المنفى لدى طه حسين ليصوره بمثابة الطريق المستقيم الواسع، بالتوازي مع القدرة على ترويض الصمت والتصالح معه.
طه حسين بحسب - فيصل دراج - استخدم الطريق والصمت كآليات مجازية للتعبير عن المآساة مع مجتمعه الذي خذله. فالطريق بالنسبة للاعمى هو متاهة ومغامرة وهو تعبير عن العجز إذ يقول «كان الطريق ضيقا ملتويا، كان الطريق ضيقا ملتويا كريه الرائحة/ كان الطريق متسعا». وكذلك هي الحال مع «الصمت» إذ يقول كان هناك صوت ولم استطع أن أنام/ كان هنا».
الطريق إلى الربع الخالي
الذي أضاع مكانه جذريا من العالم وليس المقذوف خارج منطقة مكانية بعينها، هذا هو المنفى كما يؤطره الشاعر العماني سيف الرحبي.في فضاءات خارج لعبة الإجتماع والتاريخ بين عديد الأسئلة والهواجس يجد المنفي نفسه، تلتف به تسويات، وعليه أن يجد في هذه اللحظات الحاسمة التسويات الممكنة.
يتجاوز الرحبي ثنائية الوطن المنفى، يعتقد أن المنفى اليوم يلبي إحتياجات المنفي ومتطلباته أكثر مما تستطيع الأوطان المنكوبة بكافة أنواع التسلط والحروب والإنهيار. ويتساءل الشاعر العماني ما إذا كانت «الأمكنة الأولى، أمكنة الطفولة دوافع جذب وحنين؟ ... أم كفت عن أن تكون كذلك وأحكم التيه والإنخلاع قبضته الأزلية؟».
يمتلك المنفي مخيلة خصبة في حدود الرحبي - حين تكتمل مرحلة النفي - وقد تصل حد أن «تراوده هواجس عدائية تصل إلى حدود تخيل مجزرة بكامل ضحاياها، لكنها تظل مجزرة في المخيلة واللغة ولا تتجاوزهما». هنا تعمل شفافية اليأس وقوة انكسار الأمل للوصول بالمنفي إلى «خريطة متناقضات داخلية متموجة بجمال وقسوة خاصين».
وتتمثل خارجه المتناقضات كبستان الداخل وهي التي «يحال تعهدها بالسقي والرعاية عبر خيارات جمالية يرتئيها». اما خريطة الخارج بسراباتها ووحقائبها فتتحول إلى امتداد «أرومة جمالية، لبستان الداخل بسراباته وحقائقه التي ربما تتجلى ولو كإشراقات عابرة كنوع من تسوية ممكنة مع وجود صعب وعمر هارب».
العدد 1672 - الأربعاء 04 أبريل 2007م الموافق 16 ربيع الاول 1428هـ