تجدون في مجمل تغطياتنا لمهرجان الدوحة الثقافي جديّة التمحور حول «المركز»، ونقطة المركز - حسب ما أعتقد - كانت مجمل الفعاليات الرسمية في المهرجان. إلا أنك حين تعايش «الحدث» من بعد سيسيولوجي صحيح تصبح مهووسا بالحديث في لحظة من لحظاتك الهادئة على الولوج في منطقة «الهامش». عليك حينها، أن تقوم بتحديد مساحة كافية للرؤية والإحساس ودقة الملاحظة.
هناك، بعيدا عن المركز. وبعيدا على مقصات الافتتاح وترف باقات «الورد» التي تزداد أعدادها حد إحساسك بخلو مساحات قارة أوروبا من الورد هذه الأيام. هناك في الهامش تقف شخصيات/ حوادث/ طرائف/ نزاعات تخالها في الهامش لكنها في الحقيقة مركز «المركز» نفسه. بل هي المركز وإن كانت لا تظهر في لقطات الافتتاح الرسمية أو في لقاءات الصحافيين الذين يتعمدون إزعاج علية القوم بأسئلتهم المكررة، على أن المركز نفسه كان له أن ينشغل بالهامش، ففي لقطة أو أكثر كان الأمين العام لمجلس الثقافة والفنون والتراث يراقب الاستعدادات والترتيبات العامة للفعاليات بنفسه.
ولأن «المركز» في مهرجان الدوحة كان ألقا بامتياز، كان للهامش أن لا يقل ألقا وخفة وجمالا. وحتى لا أبرر نسيان أحدٍ ما في الهامش لابد أن أذكر أن للهامش نفسه هامشا آخر يختبأ دون أن نلاحظ. وأن لذلك حكمة لا يعلمها إلا الإعلاميون والراسخون في العلم على أن الإعلاميين أنفسهم - دائما وأبدا - يعتقدون أنهم «أرسخ» الناس علما.
من الذي وقع على الطلبية
في أي تجمع إنساني أو تفاعل تظهر شخصية ما تتصف بغلبة شتى مظاهر القلق عليها. مهمة هذه الشخصية هي أن تكون منطقة «الوسط» في كل شيء، في يوم المهرجان الأول كانت موظفة العلاقات العامة بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث مها خضر الأكثر ضجيجا/ خوفا/ سرعة/ نشاطا بين من كانت ردهات فندق الريتز كارلتون الدوحة تزدحم بهم.
كانت مها تستعير في خطاها بخط مستقيم تمشيه ذاهبة آتية كما هي رحلة الشتاء والصيف. تسأل مها، وتحاسب، وتشيد، وأحيانا ما تستنكر لتسأل بحدية عن ذلك الذي وقع على إحدى الطلبات التشغيلية للمهرجان. وكان علي «أنا» الضائع في متاهات يومي الأول أن أحرك رقبتي مع مها على التوالي.
كانت مها خضر تمسك بيديها هاتفا أو هاتفين وجهاز استقبال لا سلكي وأجهزة أخرى لا أعرف مسمياتها. أدركت حينها ضرورة أن تكون هذه المرأة أولى لقطاتي في البحث عن الهامش، ذلك أني لا أعتقد أنه من العدل أن تكون التواءات رقبتي مع مها في متابعتها وهي تأتي وتذهب، بلا فائدة.
أنا حسن الجفيري... أحبكم كلكم
المشهد الثاني هو حسن الجفيري، وفي الحقيقة لم يكن حسن الجفيري هذا مفاجأة بالنسبة لي، فلدينا في البحرين شخصية تشابه حسن الجفيري نسبيا. فحضوره شتى الفعاليات وإصراره الدقيق على التعليق وحساسية رؤساء الفعاليات منه كلها تبدو طبيعية جدا، وأتساءل عما إذا كان جميع أولئك الذين يقمعون حسن الجفيري - كما يقول في شتى مداخلاته التي قد تكون خارج موضوع الفعالية - يدركون أهميته، وأن الفعاليات ستكون ناقصة إن غاب عنها أم إنهم لا يكترثون لذلك. الذي أعرفه أني سأبحث عن حسن الجفيري حين أزور قطر في أي فعالية ثقافية في المستقبل.
أحسست بضرورة التصالح مع حسن من البداية، هذا التصالح كان يقتضي أن أدرك رغبته الجامحة في أن يشارك في كل شيء، في الفن والموسيقى والرقص والغناء والثقافة والشعر، محورية حسن أنه لا يستطيع أن لا يشارك او يتكلم في أي موضوعة من الموضوعات. وأعتقد أني سمحت له في ما أملك - القبول بالاستماع له - عبر أن لا أحس بأي تملل منه أو حتى أن لا تنطبع على وجهي حال من الاستياء، أحسست بضرورة أن أعطيه مساحة سأسميها «مساحة الوجود»، مع ان كثيرين في الدوحة كانوا يعتبرونها مساحة للإزعاج. الذي كنت ولاأزال متأكدا منه ان «حسن الجفيري» يدرك إحساس مناوئيه، لذلك هو يصر على أن يختتم مداخلاته بعبارة إنسانية رفيعة «أنا حسن الجفيري... أحبكم جميعا». ولعلّي أدعو مناوئيه إلى أن يبادلوه الحب بالحب.
«أشرف» و»محمد» وأقراص الاسبرين
الصديقان «أشرف علي» و «محمد رضا إسماعيل» مصدران معلوماتيان لا يمكنك الإنتاج من دونهما. تعلمون جيدا أن السيطرة على المعلومة هي سيطرة على الإنسان أولا، وعلى الإنتاج ثانيا. إلا أن أحدا من الصديقين لم يكن سلطويا أو ملولا أمام طلبات أكثر من 60 إعلاميا وإعلامية لا أعتقد أن جميعهم كانوا يمتلكون القدر الكافي من الإنتباه إلى أن الحاجة للسؤال غير مبررة، وخصوصا مع توافر شتى المصادر المعلوماتية إلكترونيا.
الهامش هنا، هي تلك الإنسانية الرفيعة التي وجدتها من الصديقين في قسمي الإعلام والتقنية. وهي بشكل أدق قدرتهم على تحمل لهذا العبء الذي من المفترض أن نكون نحن سببه الرئيسي. لا أدري ما إذا كان الصديقان قد أدمنا على تناول أقراص «الاسبرين» أو «البندول» طوال أيام المهرجان، إلا أنني لم أشاهد أيا منهما يفعل ذلك، ولو كنت مكانهما ببساطة، لفعلت.
دائما... «البدينون» فاكهة الدنيا
كلهم مروا من هنا، وبالنسبة إلى موظف العلاقات العامة أو بالأحرى دينمو المهرجان عيسى إسحق فلابد أن يكون جميع من زاروا مهرجان الدوحة قد مروا من خلاله. «البدينون» - وأنا منهم - هم فاكهة الدنيا شاء أولئك المتباهون برشاقتهم أم أبوا. وعيسى بابتسامته التي لا تجف كان فاكهة مهرجان الدوحة.
الأكثر من ذلك، والذي قد أدخل «الغيرة» في قلوبنا جميعا، هو أن عيسى هو الأكثر قدرة على إبداء أعلى لطافة ممكنة مع النساء. ولأن باقات «الورد» تنتشر في شتى ردهات الفندق فقد كان عيسى لا يتوانى عن تقديم أيٍ منها لأي فتاة أو امرأة تجلس في البعيد وحدها. هنا يظهر عيسى بابتسامة عريضة وبباقة ورد ليكون الرومانسي اللطيف الوحيد في المهرجان أولا، وليسرق منّا نحن بقية الرجال وهج اللباقة والرقة والعذوبة ثانيا. الذي يبدو ظاهرا بالنسبة إليّ هو أنك لا تستطيع أن تكون محور الحدث حين يكون عيسى حاضرا، الأكثر من ذلك، أنه في حال حضور أيٍ من الأسماء الكبرى كرئيس مجلس الثقافة والفنون والتراث الشيخ مشعل آل ثاني أو الأمين العام للمجلس مبارك بن ناصر آل خليفة فإن عيسى لا يدع لأحد مكانا للاقتراب. كانت أيام الدوحة زاخرة باللقاءات والحوارات والاختلافات والمتناقضات، تبدو لي هذه الحال ثقافية صحية بامتياز. حوارات المقهى الثقافي حين تخرج عن الحدود يسارع الأستاذ العزيز علي ميرزا إلى تفعيل أدوات الضبط، ولا أخفيكم سرا أني كنت أسعد أيما سعادة حين يخفق في ذلك. أخيرا، لا يصح لي، على الأقل وأنا في منطقة «الهامش» أن أنتهي بشكر كلاسيكي على نمط كتابات الإعلاميين التي تتأثر بمقتضيات «العلاقات العامة»، وتجاوزا لذلك وخروجا للمألوف. سأشكر من ساهم في هذه الاحتفالية ونسيته أو لم تتح لي الفرصة المناسبة أن ألتقيه، شكرا للهامش، شكرا للإنسان في الهامش إذ يبدو هو المركز بامتياز. وهو لعمري شكر أكثر عمقا من الشكر بصفته الرسمية.
العدد 1672 - الأربعاء 04 أبريل 2007م الموافق 16 ربيع الاول 1428هـ