لا يستطيع أحد أن ينكر أن مصر في حال فوران متعددة الأسباب والاتجاهات، وهو فوران إن اكتسب طابعا سياسيا ساخنا، فإن جذوره في الحقيقة تدق في الأرضية الاجتماعية المضطربة، بسبب ضغوط الحياة وأزمات المعيشة...
ولقد جاءت تعديلات الدستور الأخيرة، والاستفتاء الشعبي عليها وما رافقها من صخب وضجيج، لتؤكد أن كل أطراف المعادلة السياسية في مصر، تستغلها، كل بطريقته ولصالحه، بصرف النظر عن الدقة في الحساب الختامي...
الحزب الوطني الحاكم، يعتقد أنه فوران ايجابي، حقق من خلاله أهدافه في تعديل 34 مادة بالدستور، وأنه جاء تعبيرا عن قدرته كحزب «قائد ورائد» على تحريك الشارع واستقطاب الناخبين للتصويت لصالحه، ولدعم توجهاته وسياساته أكثر من أي وقت مضى، ما يبشر باستمراره في الحكم إلى ما لا نهاية!
والمعارضة بتلويناتها المختلفة يسارا ويمينا، ترى أنه فوران ايجابي لصالحها هي، فقد جاء تعبيرا عن غضب الشارع المصري من سياسات الحزب الحاكم وحكومته، كما جاء مقدمة لهبة شعبية منظرة، بعد أن هزمت الأزمة الاجتماعية الاقتصادية كل الطبقات، على رغم محاولات الحزب الحاكم تزويق الصورة لتخدع الجميع بسياسات سلبية واضحة...
والحقيقة أنني من الذين كانوا يتمنون أن تتم التعديلات الدستورية والاستفتاء عليها، بطريقة أكثر موضوعية وعقلانية، وبعيدا عن الحسابات الصغيرة والخطايا الكبيرة لترزية القوانين المنقادين لجماعات الضغط المعروفة، والملتفة حول الدائرة الحاكمة، بلا هدف إلا جمع المكاسب الشخصية، حتى لو ذهب الوطن للهاوية... للصدام المجتمعي الواسع!.
لقد وقعت «الفأس في الرأس» وحدث ما حدث، وسط اعتراضات واسعة من أحزاب ومنظمات وفئات كثيرة في الداخل، وانتقادات شديدة من حكومات وهيئات في الخارج، تلك التي عبرت عن الموقف بعبارة دالة، هي: لقد انتهى ربيع الديمقراطية في مصر إلى خريف...
وقد لا يعرف هؤلاء أن موسم رياح الخماسين الساخنة الحاملة للرمال والأتربة، قد بدأ في مصر وطقسها المعروف ليسلمها بالضرورة إلى صيف ساخن حار رطب هو أطول فصول السنة وأقساها... هكذا هو إذا العام 2007.
وبداية نقول إن تعديل الدستور، أي دستور، لا يمكن أن يتم انفراديا وتحكيميا، من جانب طرف واحد في الأمة، ليفرضه على باقي الأطراف بقوة الأمر الواقع، ولكن تعديل الدستور، يحتاج إلى شرطين رئيسيين هما أولا التوافق الوطني الوسع، وثانيا المواءمة السياسية بين الاتجاهات المختلفة، ليكتسب التعديل الثقة والصدقية من الشعب...
لكن الذي جرى كما نعرف جميعا، أن تعديل 34 مادة، وهي حزمة كبيرة، قد جرى طبقا لرؤية أحادية الجانب، هي رؤية الحزب الوطني وحده، الذي لم يستمع إلى آراء الأحزاب الأخرى، ولم يستجب، ولو حتى من حيث الشكل، لأي مقترحات تقدمت بها منظمات المجتمع المدني، وبالتالي مرت التعديلات عبر البرلمان، بواسطة الغالبية الميكانيكية المعروفة.
وعلى رغم أن هناك عناصر إيجابية كثيرة في هذه التعديلات، لاقت قبولا شعبيا بل وحزبيا، فإن إصرار الحزب الوطني على استبعاد أي مقترحات للأحزاب والقوى السياسية والمدنية الأخرى، وخصوصا بشأن المادة 88 الخاصة بالإشراف القضائي، والمادة 179 الخاصة بمقاومة الإرهاب وتأثيرها على مواد أخرى مرتبطة بحريات المواطنين وحقوقهم الأساسية، قد أدى في النهاية إلى خلط الصالح بالطالح، وتراجع التعديلات الإيجابية، وخصوصا حقوق المواطنة، في الذهن العام، أمام صخب التعديلات السلبية محل الخلاف والانتقاد!.
وقد تعلمنا أن السياسة هي بطبيعتها عملية مرنة قابلة للحوار والمناقشة والمناورة، تأخذ وتعطي، ولا تعرف العناد ولا تعترف بالرفض المطلق والاستبعاد الكامل، للقوى السياسية الأخرى، مهما كانت درجة الخلاف، كما أن اللعبة الديمقراطية تقوم على فريقين يباريان، فريق يحكم وآخر يعارض، يتبادلان المراكز ويتداولان السلطة، وفق نتائج صناديق الانتخاب الشفافة النزيهة...
فماذا لو لعب فريق مع نفسه، يحاور نفسه وينتصر لنفسه، ثم يطالب الآخرين بالموافقة على النتيجة التي يريدها والاعتراف بالأهداف التي يسجلها... هذه لعبة خارج القواعد المتعارف عليها...
خروج اللعبة عن قواعدها، يشعل الصيف المقبل بسخونة لاهبة، حين تبدأ تطبيقات التعديلات الدستورية الأخيرة، وحين تبدأ حكومة الحزب الوطني بتقديم مشروعات قوانين للبرلمان، المضمونة غالبيتها، مثل قانون الإرهاب الجديد، وقانون مباشرة الحقوق السياسية والأحزاب وغيرها، وهي كلها ترتبط بمحور رئيسي هو محور الحريات العامة والخاصة، وحقوق المواطنين وواجباتهم، وقدرتهم على المشاركة والتأثير في اتخاذ القرارات ووضع السياسات...
ولعلنا نحذر من الآن، من خطورة تنامي روح «الانتصار الكاسح» في دوائر معينة بالحزب الحاكم. نرى أن نجاحها في تمرير التعديلات الدستورية والاستفتاء عليها، بالطريقة التي جرت. وهو انتصار مطلق لإرادتها وتحقيق كامل لأهدافها، وهزيمة مروعة للمعارضين مهما تنوعت ألوانها... ولو تمكنت هذه الروح فإنها تتجاهل حقيقة أساسية، ان هي قرأت الحقائق والأرقام الخاصة بعدد ونسب المشاركة في التصويت سواء داخل مجلس الشعب، أو في الاستفتاء العام... هي أرقام تشي بالحقيقة...
بداية يجب الأخذ في الاعتبار أن مجلس الشعب شهد أكبر كتلة مقاطعين ومعترضين على هذه التعديلات، برقم 108 نواب، أي نحو ربع عدد الأعضاء وهو عدد غير قليل، كما أن نسبة المشاركة من الناخبين في الاستفتاء، تراوحت ما بين 27 في المئة كما قالت البيانات الحكومية، ونسبة 5 في المئة كما قالت المعارضة ومنظمات المجتمع المدني فإن أخذنا المتوسط بين الرقمين لعرفنا أن نسبة 16 في المئة فقط من عدد الناخبين، قد شاركت وأن الغالبية الكاسحة قد رفضت أو قاطعت سلبيا أو احتجاجا!.
فإن قرأ الحزب الحاكم، هذه الأرقام على حقيقتها، واستخرج منها المعاني الصادقة، بعيدا عن «روح الانتصار الكاسح لنا والهزيمة الساحقة للمعارضة»، لأدراك على الفور أن تمرير تعديلات الدستور وإقرارها قانونيا ودستوريا، لا يعني الرضا عنها شعبيا، ولتأكد أن أي إصلاح ديمقراطي، لا يتم في غرف مغلقة، ولا عن طريق حوارات تلفزيونية معلبة لا يتحاور فيها إلا فرق الموافقين المؤيدين!.
ولعل المعنى الرئيسي الأول الذي يجب استنتاجه وتوضيحه صراحة، أن جميع الأحزاب السياسية، وعددها الرسمي 23 حزبا، وفي مقدمتها الحزب الحاكم نفسه، قد فشلت في استقطاب أو تحريك الغالبية العظمى من الناخبين لإشراكهم في استفتاء مهم على تعديلات دستورية مهمة، كما توضح الأرقام السابق ذكرها...
والمعنى الثاني يندرج في إطار سؤال مهم أيضا، وهو كيف إذا ندير العملية الديمقراطية والحراك السياسية، بل حال الفوران الراهنة والمتوقعة، إن كانت كل هذه الأحزاب المؤيدة والمعارضة، قد فشلت في إقناع الناخبين وتشجيعهم على ممارسة حقوقهم الانتخابية وإخراجهم من دائرة السلبية واللامبالاة...
والمعنى الثالث، يظل يتساءل أيضا، عن سر هذه المقاطعة واللامبالاة، باللعبة كلها، والجواب يتركز في فقدان الثقة وغياب الصدقية، من جانب معظم الناخبين في العمليات الانتخابية «في مصر 35 مليون ناخب»، نتيجة التجارب السابقة في التزوير المشهور، وبالتالي فإن السلبية واللامبالاة ستستمر بل ستتصاعد، إن ظلت قواعد اللعبة على ما هي عليه...
ثلاثة معانٍ نختصر حديثنا اليوم بها، ليس لأنها الوحيدة، ولكن لأنها كما نرى هي الأهم، ومن موقع مستقل نطالب الأحزاب قاطبة بدراسة أسبابها ونتائجها، ومسئولية الحزب الوطني هنا أكبر بحكم أنه الحزب الحاكم، لأن استمرار تجاهلها، أو ممارسة العناد في إنكارها، إنما يؤدي الى النتيجة النهائية التي لا نريدها لهذا الوطن... فشل ربيع الديمقراطية قبل أن ينطلق...
ثم نضيف... أن ما يقلق وسط هذا الفوران السياسي، هو هذه الاستهانة المتكررة على أفواه مسئولين، بنسبة المقاطعة والاعتراض والرفض، التي صاحبت تعديلات الدستور، وهي نسبة كبيرة بالمقياسين المصري والعربي، فإن اقتصر رد الفعل على مجرد الاستهانة والتغاضي والتجاهل، فإن في الأمر خللا شديدا وخطرا جسيما يزيد الفوران التهابا...
بالمناسبة... لماذا احتقار المعارضة، لمجرد أن لها رأيا مختلفا!.
خير الكلام: من ديوان الشعر:
نصحتك فالتمس يا ليث غيري
طعاما... إن لحمي كان مُّرا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1671 - الثلثاء 03 أبريل 2007م الموافق 15 ربيع الاول 1428هـ