من أروع القصائد التي قيلت في محضر النبي (ص)، «بانت سعاد»، التي يعرفها دارسو الأدب العربي والنقاد والمؤرخون وعموم المثقفين. وهي قصيدة تبدأ بالتشبيب (التغزل بالحبيبة) على عادة الشعراء في ذلك الزمان.
صاحب القصيدة كعب بن زهير بن أبي سلمى كان مطلوبا لموقفه المعادي للرسالة التحرّرية الجديدة، ولكن أخاه بجير الذي أسلم قبله، دعاه إلى الإسلام، فجاء الرسول معتذرا، وأنشد قصيدته الطويلة التي تنتهي بالمديح:
فقـدْ أتيتُ رَسولَ اللهِ مُعْتَذِرَا
والعفو عندَ رسول الله مقبولُ
مهلا رسولَ الذي أعطَاكَ نافـلةَ
القرآنِ فيها مَواعِيظٌ وتَفْصِيلُ
لا تأخـذنِّي بأقـوالِ الوشـاةِ ولم
أجـرمْ ولـو كَثُرَتْ عني الأقاويلُ
إنَّ الرسـولَ لنـورٌ يُستضاءُ بِـهِ
وصارمٌ من سـُيوفِ الله مَسْلُولُ
في فتيةٍ من قُريشٍ قـالَ قائلُـهُمْ
ببطنِ مَكَّةَ لما أسـلموا زُولُـوا
فلما انتهى ألقى عليه (ص) بردته تكريما.
هذه القصيدة أرست قواعد للمديح النبوي، وعلى نهجها سلك كبار الشعراء الإسلاميين، من الإمام البوصيري صاحب قصيدة «البردة» ومطلعها:
أمن تذكّر جيرانٍ بذي سلمِ
مزجت دمعا جرى من مقلةٍ بدمِ
بعده بستة قرون أخرى، جاء أحمد شوقي، لينسج على «نهج البردة»، التي يقول فيها:
ريمٌ على القاع بين البان والعلم
أحلّ سفك دمي في الأشهرِ الحرمِ
لزمت بابَ أميرِ الأنبياءِ ومن
يُمسك بمفتاحِ بابِ اللهِ يغتنمِ
أما الشاعر الفيلسوف محمد إقبال، فقال:
هـو رحمةٌ للعالمين وكعبةُ
الآمالِ في الدنيا وأخراها
من أيقظ الفِطَرَ النيام بروحه
وكأنـه بعد البِلى أحياها
سلسلةٌ ذهبيةٌ من الشعراء، حجزوا لهم مساحة في دوحة الخلود، وبقي شعرهم يتردد عبر القرون، يستعيده المسلمون فيطربون، وخصوصا في مثل هذا الأسبوع الذي يشهد احتفال المسلمين بالمولد النبوي، ويحتل فيه شعر المديح الصدارة في الإنشاد.
القصيدة الأولى، كانت قبل فترةٍ موضع تساؤل بين بعض «المشايخ» و «طلبة العلم» الذين يريدون أن يقلبوا الدنيا على رأسها: هل يصحّ سماع النبي (ص) للقصيدة من قائلها؟ ويطلب بعضهم تخريجها حديثيا! فما تعارفت عليه أجيال المسلمين من سنة الرسول (من قول أو فعل أو إقرار) أصبحت اليوم موضع تشكيك ورفض لدى «المتشدّدين» الذين يريدون أن يصحّحوا للرسول أفعاله، ولو جاء اليوم لاعترضوا عليه لسماعه القصيدة التي «عرّض» فيها الشاعر بسعاد:
بانت سعادٌ فقلبي اليوم متبول... متيمٌ إثرها لم يُفدَ مكبولُ!
اليوم، ومع احتفالنا بالمولد النبوي الشريف، كم نحن بحاجةٍ إلى إعادة النظر في هذه الطرق الوعرة والمسالك المتشددة التي انتهت إلى تكفير المسلمين وإخراجهم من الدين، وقتلهم على الهوية، بينما الهدي النبوي يعتبر المسلم من شهد الشهادتين، وفي تعريف جامع مانع: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»، فيما يستبيح بعض المسلمين دماء بعض.
ما أحرانا اليوم أن نتذكر ونذكّر بما قاله إقبال قبل سبعين عاما:
ألم يبعث لأمتكم نبيٌ
يوحّدكم على نهج الوئام
ومصحفكم وقبلتكم جميعا
منارٌ للأخوة والسلام؟
ولنتذكر صيحته (ص) من فوق جبل أبي قبيس: «جئتكم بالحنيفية السمحاء»... علنا نستمد رشفة من نبع الرحمة والانسانية والإخاء.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1669 - الأحد 01 أبريل 2007م الموافق 13 ربيع الاول 1428هـ