قبل ستة أعوام، بدأت الإمبراطورية الأميركية الجديدة بالاندفاع مثل الثور الهائج، تحطّم ما يقف أمامها، فبدأت بأفغانستان، وثنّت بالعراق، وفي الطريق أخذت تطأ البلاد الصغيرة والمتوسطة بأخفافها: لبنان وفلسطين وسورية وإيران والسودان.
ولأن سياسة جورج بوش لم تكن عاقلة ولا عقلانية، وقفت أوروبا آنذاك ضده، فوصفها بالقارة العجوز، ومن بين 33 زعيما أوروبيا لم يجد غير شخص واحد يسانده في مغامرته الحمقاء: طوني بلير، الذي وصفته صحافة بلاده بكلب بوش.
بعد أربعة أعوام من الغزو البربري للعراق، أعاد الأميركان حساباتهم، فاختاروا الديمقراطيين، وبدأ النواب التضييق على بوش وربطوا التمويل بجدولة الانسحاب، فقابلهم بالتهديد باستخدام «الفيتو»، ليستمر في المغامرة حتى الأخير.
في الأسبوع الماضي، برز على السطح ردا فعل يتسمان بالبربرية أيضا: الأول رد الفعل الأميركي على تصريحات العاهل السعودي في افتتاح القمة العربية، والآخر رد الفعل البريطاني على احتجاز البحارة.
الملك عبدالله لم يتفوّه إلاّ بوصف واقع الحال، إذ وصف الوجود الأميركي في العراق بالاحتلال غير الشرعي. وهو موضع إجماع كل شعوب ودول الأرض، إلاّ أن البيت الأبيض لم تعجبه هذه التصريحات، فـ «هم لم يأتوا إلاّ بطلبٍ من الشعب العراقي، وتفويض من الأمم المتحدة»! مع أننا مازلنا نتذكر أن بوش بدأ «غزوته» من دون تفويض من المنظمة العالمية.
الخارجية الأميركية المنزعجة جدا من عبارة «الاحتلال»، طالبت بتوضيحات، وكان وزير الخارجية السعودي سريعا وصريحا في التوضيح. ومن المؤكد أن كل توضيحات الدنيا لن تقنعهم بأن وجودهم في العراق غير شرعي، قام على كذبة «أسلحة الدمار الشامل» الكبرى، وعلى الأصدقاء والحلفاء أن يؤمنوا بقصة الديمقراطية وعيونهم مغمضة.
المهزلة الأخرى مثّلتها عملية احتجاز البحارة البريطانيين، التي هدّد بلير بدخولها «مرحلة مختلفة» إن لم يُفرج عنهم، ثم نقل الملف إلى مجلس الأمن، على أساس أن «على الإيرانيين أن يفهموا أن بريطانيا لا يمكنها قبول احتجاز عسكرييها وقد كانوا في المياه العراقية وبتفويض من الأمم المتحدة»... فمازال الرجل يؤمن بحدوتة «التفويض»!
بلير الذي وصف احتجاز البحارة بأنه تصرف خاطئ وغير مبرّر، لم يفكّر قط أنه هو الذي ذهب ببحارته إلى المياه الاقليمية الإيرانية بحسب رواية طهران، أو للمياه العراقية بحسب روايته، وفي الحالين فإن إيران أو العراق لم تذهب أي منهما إلى حدود بلاده، وإنما هو الذي جاء بجنوده إلى حدودهما ومياههما وأجوائهما منذ أربعة أعوام.
بلير الإنساني الرقيق، الذي لا يتحمّل قلبه إطالة عذابات خمسة عشر بحارا، يتلقون الطعام والرعاية وحسن المعاملة في الحجز، قال «كلما عولجت هذه القضية سريعا كان هذا الأمر أسهل للجميع»، وعلى إيران «أن تدرك أهمية الموضوع بالنسبة إلى الندن»! ولكن قلبه الرقيق لم يعذّبه على إزهاق أرواح عشرات الآلاف من العراقيين، وتدمير بلادهم وإشاعة الفرقة بينهم وتغذية الخلاف بين طوائفهم.
بريطانيا التي فشلت في استصدار قرار جديد من مجلس الأمن ضد إيران، فازت بالمقابل بتضامن القارة الاستعمارية العجوز، التي حكمت من دون تحقيق بأن البحارة لم يكونوا داخل المياه الإيرانية، وإنما كانوا «في دورية روتينية في المياه العراقية بموجب قرار مجلس الأمن 1723»! فاحتلال البلدان عملٌ شرعي، بينما احتجاز بحارة في مياه دولة مستقلة يمثل انتهاكا للقانون الدولي!
أربعة أعوام والعالم يتفرّج على مشاهد الذبح التي يتعرض لها العراقيون يوميا ببركة العجوزين من دون أن يرفّ لهما جفن، بينما مشاهدة البحارة يتحدثون في صحة جيدة وليس على وجوههم أي خدش أو جرح... يبعث على «اشمئزاز السيد بلير»!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1668 - السبت 31 مارس 2007م الموافق 12 ربيع الاول 1428هـ