بعد انتهاء الدول العربية من عقد قمتها الدورية في الرياض تجدد السؤال مرة أخرى. كيف يمكن استرداد الملفات من دائرة التدويل إلى دائرة التعريب؟ كذلك ما هي الآليات الواجب اتباعها لنقل القرارات من حيز المطالبة إلى إطار التطبيق؟
القرارات التي صدرت في نهاية جلسات القمة مضافا إليها تلك الكلمات والخطابات والتصريحات والمؤتمرات التي رافقتها عكست مجتمعة لغة هادئة ومتواضعة ومنطقية وقابلة للتفاوض على صيغ نهائية للحلول. فالخطاب الرسمي العربي الذي ظهر من كلمة الافتتاح التي ألقاها خادم الحرمين الشريفين إلى المؤتمر الصحافي الذي عقده الأمين العام لجامعة الدول العربية إلى جانب وزير الخارجية السعودي كشف عن توجه عام للتسوية وإطلاق مبادرات تدعو إلى تأكيد خيار السلم في كل الملفات الساخنة أو في طريقها إلى التسخين.
وفي حال مراجعة كل القضايا العربية التي تطرقت إليها جلسات القمة يمكن القول إن الخطاب العربي الرسمي ذهب نحو المهادنة وعدم التصعيد وصولا إلى تجنب المواجهة مع القرارات الدولية محاولا التكيف معها لتأكيد ذاك الخيار الاستراتيجي الذي اعتمدته الدول مجتمعة.
في الملف الفلسطيني جددت القمة التزامها بمبادرة السلام والاستعداد للتفاوض تحت سقف القرارات الدولية. وفي الملف اللبناني جددت القمة التزامها بدعم لبنان وتعزيز صموده من دون تجاوز لتلك القرارات الدولية المتعلقة بشأنه. وفي الملف العراقي أكدت القمة دعم وحدة العراق وسيادته ورفض الاحتلال ومحاولات تقسيمه أو تشريع مخططات الفتنة الطائفية والمذهبية. وفي الملف السوداني توصلت القمة إلى خطة عمل ميدانية توفيقية لا تتعارض مع الجهود الدولية لاحتواء أزمة إقليم دارفور. وفي السياق نفسه يمكن قراءة كل القرارات والتفاهمات والتوافقات فهي كلها ركزت على توجهات عقلانية تتعامل مع الملفات الساخنة والمعقدة بتواضع وواقعية. فالخطاب الرسمي العربي حاول في قمة الرياض أن يتطور في تعامله مع قضاياه من سياسة المقاطعة والمناكفة والرفض إلى سياسة التداول والانفتاح والتفاوض.
هذا التطور في لغة الخطاب الرسمي الذي بدأ يظهر في سياسة الدول العربية منذ نحو عقد يعكس في النهاية مجموع تلك المتغيرات الإقليمية والدولية التي ارتسمت معالمها على خريطة «الشرق الأوسط». فالمنطقة دخلت منذ فترة ليست قصيرة في مجال التدويل فانكشفت على الفضاء الخارجي وأخذت تتجاذب دولها مجموعة ضغوط أضعفت إمكانات الاستمرار في سياسة الصمود والتصدي في ظل غياب عناصر التوحيد الداخلي والتماسك الإقليمي.
شكل هذا الضعف البنيوي الموضوعي والذاتي فرصة للدول الكبرى بقيادة الولايات المتحدة للانقضاض على القضايا العربية ونقل ملفاتها إلى مجلس الأمن وتدويلها. وأعطى التدويل ذريعة لإدارة واشنطن برفع منسوب تدخلها المباشر العسكري والسياسي والدبلوماسي، وباتت الآن الدول العربية مكرهة على التعامل مع هذه المتغيرات بعد أن تموضعت القوات الأميركية في الكثير من المواقع الاستراتيجية والنقاط الحساسة.
المنطقة العربية الآن باتت مطوقة بالقواعد العسكرية والأساطيل والناقلات والحاملات وهي لا تستطيع التخلص منها أو تفكيكها أو التخفيف منها من دون توصل الدول إلى صيغة سياسية توفق بين المطالب والحقوق العربية في حدها الأدنى وبين المتغيرات الجيوبوليتكية التي طرأت في السنوات الست الأخيرة. وسياسة التوفيق بين الحق وشروط الواقع فرضت على الخطاب الرسمي لغة متواضعة ومنطقية وعقلانية تؤكد الثوابت وتعترف بالمتغيرات.
الخطاب العربي الرسمي
هذا المتحول في لغة الخطاب الرسمي يزيد من مسئوليات الدول العربية لأنها ستكون في القريب العاجل في مواجهة استحقاقات قاسية تتصل بتلك الملفات التي تتنازع أوراقها تجاذبات التعريب والتدويل. ومثل هذا التجاذب السياسي سيظهر لاحقا في الواقع الميداني وخصوصا إذا عاندت «إسرائيل» وأصرت على رفضها المبادرة العربية وتمسكت بشروطها التي تقضي برفض الانسحاب ورفض العودة وتقديم التطبيع على السلام العادل والشامل. كذلك ستظهر ألوان التجاذب في ساحة العراق في حال أصرت واشنطن على خطة «الانتصار» حتى لو أدت إلى تقويض ما تبقى من نسيج أهلي يجمع سكان بلاد الرافدين. كذلك لا يستبعد أن يتجدد التجاذب الإقليمي - الدولي في ساحة لبنان ويعاد استكمال خطة التقويض الأهلي في ظل انحسار المشروع العربي الضامن لوحدته وتماسكه الوطني. والأمر نفسه يمكن رؤية تفصيلاته في أزمة السودان وفوضى الصومال وتداعيات الحشود العسكرية في مياه الخليج.
التواضع في لغة الخطاب الرسمي سياسة عقلانية صحيحة لأنه يكشف عن تعامل واقعي مع معادلات جديدة طرأت على المنطقة العربية وصادرت ملفاتها الساخنة ونقلتها من دائرة التعريب الإقليمي للازمات إلى دائرة التدويل والتدخل المباشر في إدارة شئون المنطقة. ولكن لغة التواضع في الخطاب الرسمي تحتاج أيضا إلى خطط بديلة قادرة على مواجهة الطوارئ واحتمال تداعي القضايا وانجرافها في اتجاهات غير متوقعة وضمن حسابات لا تتوافق بالضرورة مع صيغة الدمج بين نهج التعريب وسياسة التدويل.
عملية استرداد الملفات من دائرة إلى أخرى تحتاج فعلا إلى خطة ميدانية أو على الأقل إلى آليات تنظم خطوات الانتقال من مكان إلى آخر. وحتى تكون عملية الاسترداد ناجحة ومرنة لابد من إعادة هيكلة الاستراتيجية العربية وترتيب جدول أولوياتها بشكل يتناسب مع الإمكانات والحاجات. وجدولة الأولويات تتطلب بدورها خطة تنظيمية تعطي أفضلية لملف على آخر من دون أن يعني الأمر إهمال الملفات الأخرى.
إعادة هيكلة الاستراتيجية العربية تتطلب فعلا إجابة عن سؤال: هل الملفات الساخنة مترابطة أم منفصلة؟ إذا كانت منفصلة لابد من وضع تصور منهجي يرتب القضايا واحدة بعد أخرى وفق صيغة مشتركة تميز بين المهم والأهم والأقل أهمية. وإذا كانت مترابطة (وهي كذلك) لابد من هيكلة الاستراتيجية العربية وتوسيع دائرة التعامل مع الملفات الساخنة بصفتها حلقات مشدودة إلى سلسلة واحدة.
القرارات العربية التي صدرت في الجلسات الختامية لقمة الرياض تطرقت إلى معظم الملفات الساخنة واقترحت معالجات منطقية وواقعية بهدف التوصل إلى حلول سياسية تجمع بين حقوق التعريب وشروط التدويل. إلا أن القمة افتقدت تلك الآليات التي لابد منها للمساعدة في متابعة الملفات وضبطها ضمن حدود تضمن عدم تدهور الأزمات وربما انفجارها.
لنفترض جدلا أن «إسرائيل» واصلت رفضها للمبادرة العربية وتقدمت ميدانيا للإطاحة بحكومة الوحدة الوطنية التي أنتجها تفاهم مكة بين «فتح» و «حماس». ولنفترض جدلا أن حكومة إيهود أولمرت قررت فجأة استئناف عدوانها على لبنان وكسر القرار الدولي 1701. ولنفترض جدلا أن إدارة جورج بوش قررت مواصلة سياسة الهروب إلى الأمام أو حتى الانسحاب السريع من بلاد الرافدين وترك أهل العراق يتقاتلون في محيط قابل للاشتعال.
مثل هذه الفرضيات قد لا تكون مطروحة على جدول أعمال تحالف واشنطن - تل أبيب، ولكنها ليست مستبعدة في حال عاندت أميركا و «إسرائيل» العالم وقررتا خوض معركة فاصلة أو مغامرة لمنع عملية استرداد الملفات من دائرة التدويل إلى دائرة التعريب. وبغض النظر عن الاحتمالات والترجيحات كيف سيكون الرد العربي وكيف ستتعامل الدول العربية مع استراتيجية التقويض التي ابتدعتها إدارة بوش وجربتها مرارا في المنطقة في السنوات الست الماضية.
هناك إذا مشكلة وهي تتلخص الآن في وجود خطة «ألف» لدى الدول العربية وهي التأكيد على الحقوق والمطالب المشروعة تحت سقف التدويل. ولكن الخطة «ألف» تحتاج إلى خطة «باء» وهي ضرورة التوافق العربي على آلية تنفيذ تضمن الحد الأدنى من المصالح القومية والكيانية. وأيضا تحتاج الخطة «باء» إلى الخطة «جيم» وهي إعادة هيكلة الاستراتيجية العربية لتكون جاهزة للرد على احتمالات وفرضيات غير مطروحة الآن، ولكنها غير مستبعدة في حال قررت واشنطن بالتحالف مع تل أبيب تدوير الزوايا وتغيير قواعد اللعبة ضمن حسابات ومعادلات غير مألوفة.
انتهت القمة العربية في الرياض إلى مجموعة قرارات متواضعة وتفاهمات عقلانية أثارت سخط أميركا وامتعضت بشأنها حكومة أولمرت. وردة الفعل هذه يمكن النظر إليها على أنها بداية للتعامل باحترام وجدية مع الخطاب العربي الرسمي... ويمكن أيضا أن تتضمن خطوة غير متوقعة في حال قررت إدارة بوش الخروج بسرعة من زاوية ضيقة حشرت فيها في أكثر من مكان في المنطقة العربية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1667 - الجمعة 30 مارس 2007م الموافق 11 ربيع الاول 1428هـ