لم تكن أشلاء العراق الذبيح رهينة مقاصل «الشرعية الدولية» الجديدة في حاجة إلى اعتراف متأخر يطرحه قادة أنظمة الغنيمة العربية على آخر صحون القمة فحواه بأن غزو العراق لم يكن شرعيا أو مشروعا!
أبدا لسنا بحاجة لمن يتمرد على أسياده في آخر دقيقة من الدوام الوظيفي؟!
فات الأوان وولى، واندثر أنين رائحته العمياء، فالعراق لم ولن يحتاج إلى شهادة من أحد عن لون عرقه ورائحة دمائه، سواء خطيب مفوه أو كاتب مرموق أو فتوى من مرجع وعالم موثوق، أو بالأحرى عما آل إليه وضعه حاليا، فالصورة كانت فاقعة وواضحة منذ البداية حد إزعاج المآقي أرجعنا في ذلك إلى سيناريو الغزو أم السطو المسلح على التراث الحضاري والفكري والمعرفي، أم سلب الخزينة النفطية بنية مبيتة وحراستها بدعوى المحافظة على «احتياطي لمستقبل العراقيين الجدد»!
كما أننا لسنا بحاجة إلى تعزية ومرثية تصل متأخرة من بعض مقاولي وعرابي الاحتلال الصهيوأميركي عسى أن تقدم للحال العراقية البائسة وهي تكابد مواجع تقطع أجزاء وأوصال هذا الكيان الأوحد بعدما فصلت روحه الحضارية عن أضرحة جسده المتداعي الذي احترق وتناهى إلى شذرات وشرارات طائفية حارقة تسوغها رياح «التغيير» الجديدة ناحية سائر أطراف المنطقة!
فما الذي سيحصل عليه الآن صاحب الفطرة العراقية المسكينة والمغدورة بأبنائها وأشقائها وقومها قبل خصومها وأعدائها من فائدة جراء اعتذار بليد لا يزل ملاكا ومعلوكا في أفواه منظري أساطير العراق الجديد من «متلبرين عربان جدد» فـغلاة طائفيين، أو قومجيين وتكفيريين، أو شعوبيين تطهيريين بعد أن مضت ألف ليلة وليلة ديمقراطية من سواد ليل بغداد؟!
هل سيعتذروا ويبوسوا الجمجمة العراقية المعشوشبة باليورانيوم أولئك أصحاب البضاعة الكاسدة ووكلاء حنطة الديمقراطية المسرطنة أو المخلوطة بالزرنيخ والرصاص، ممن استغل جوع الفرد العراقي البسيط ليدس في أخاديد بؤسه ومغاور حرمانه تلك السموم الطافية؟!
عروبة العراق بعدما خنقها «خيش» القومجيين الملتف بعصبية وعنصرية مبتذله على رقبتها كما لو أنها كانت وسام رفاقي أو وشاح عصبوي، عادت إليها ونحرتها أسنة أعدائها ومخالب خصومها التقليديين ليطلقوا سراح عصافير أنفاسها الزرقاء المحتبسة في عراء برزخ متدلى كتفاحة ما بين جنة ونار بعيدا عن أن تتمرأى في أية صورة؟!
جاءت كل طائفة وكل فئة وعشيرة ورهط يبحثون عن مناجم المظلوميات عسى أن تستثمرها عقاريا وتستودع قسائمها الدولارية في مصارف الفدرلة ؟!
أي فائدة ملموسة أو قيمة حقيقية سيجنيها العراقي المسكين جار الموت ووليف الدمار والخراب حينما يستمع مرة أخرى لـ»طبلجة» أو «دبلجة» يقدمها له «المتلبرلون العربان الجدد» في إحدى محافلهم الماسونية ، وهي قد ادعت منذ مطلع القصف الأول بأنه ينبغي على العراق ومقاوليه الجدد أن يفكروا في الانضمام بجدية إلى الاتحاد الأوروبي؟!
كما أنها لم تكن لتتوانى عن تمجيد وتبريك أحذية المارينز وتعليقها على جدران بيوتهم لكونها جالبة للحظ الديمقراطي كما أسلفنا القول في إحدى مقالاتنا السابقة، بل أنه وفي الوقت الذي شاهدنا فيه أشكال السرقة الجماعية للذهب والعملات وحتى «خياش البصل» في وضح النهار الديمقراطي، هتف الآتون على ظهر الدبابات الصهيوأميركية بأنها امتداد الثورة الفرنسية في أرض العراق!
ما الذي يستفيده العراقي اليتيم من ندم وخيبة كنعان مكية المعلنة/الملعنة؟!
ما الذي تستفيده العراقية الثاكل من اعتذارات فوكوياما وغيره؟!
ولم يكتف البعض بترداد مقولة العمالة الشهيرة بأن أصوات الصواريخ المنهمرة على بغداد أعذب من موسيقى بتهوفن، بل أصبحت هنالك مقولات عمالة فخورة أكثر شهرة حتى من مرتزقة الثلاثة نجوم والنجمتين، نذكر منها ما قيل بأن العراق لم يستقبل سوى صواريخ الحداثة وقنابل المدنية والحضارة التي تدك ضلوع الرجعية وتفتت مفاصل الظلام فتنهض وترتقي به من جهالته وتخلفه؟!
بل انتعش آخرون من مرتزقة النجمة الواحدة ليجزموا بأن النيران البرتقالية المخضبة لليل بغداد جراء القصف الصهيوأميركي البهيمي لم تكن إلا أولى خيوط فجر يوم ديمقراطي حضاري جديد على العراق لم يعرف له مثيل في تاريخ العراق والمنطقة؟!
ومن الطبيعي أن يرى العراقيون الليليون هذا الفجر فيقذفوه حجرا بدلا من وتر، فبديهي أنهم يبصرون قبل أن يستبصروا؟!
وجميعها من أكاذيب باهتة وبروباغاندا مثلومة الفوهة قد روجتها طبول وأبواق الاحتلال بغض النظر عن استعراب بعضها، كما حاول أن يدبجها برسالية حداثية متلبرلة رهط ممن تخلف عن زحام موائد الأيديلوجيا العامرة، لينضم إلى ركب طابور خامس يشفع له مائدة فكرية مستهلكة (فاست فود) تسد جوعه، الأمر الذي أدى حينها بالشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف إلى أن يحرق قيثارة روحه الحزينة ويبخر ندى دمعها أمام الملأ الحضاري الإنساني المشترك، فيصدح بقافية تتعلق في حيرة شجية:
«السمتيّاتُ الأميريكيةُ تقصف أحياءَ الفقراء
والصحفُ المأجورةُ
في بغدادَ
تُـحَـدِّثُ قُـرّاء أشباحا
عن أرضٍ سوف تكونُ ســماءْ .»
ترى هل يقتنع من استرزق وشبع أو هذى بحسن نية في إلباس عراق الاحتلال بثياب وجلابيب الأساطير «المتلبرلة» أن ينزعها هذه المرة عن أشلاء جسده المكوي والمحروق والملدوغ كأبهى ما تكون عليه الرجعية والبهيمية، ربما بحثا عن طبيب أو «شامان» آخر؟!
هل ينزع الطائفيون عن لحم العراق عباءات أساطير شموسهم الطائفية، ويلبسوه بدلا منها قميصاُ وطنيا ليكشف الجرح الحسيني ويستر العورة على الأقل؟!
هل يبتعد قليلا بناظريه من يظل مشغوفا ومبهورا بتطور أساليب وتقنيات المقاومة العراقية الباسلة التي تستهدف الاحتلال وعملائه، عسى أن يرى في ناظريه وسيلة واقعية ومجدية مثلاُ لصهر الشظايا ولم الشتات العراقي الجديد المفروض واقعيا في وعاء وطني أكان شتاتا طائفيا وشعوبيا وفئويا وصهيونيا وقومجيا وغيره، وذلك في الوقت الذي فشل فيه وكلاء الديمقراطية الاستهلاكية العولمية؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1667 - الجمعة 30 مارس 2007م الموافق 11 ربيع الاول 1428هـ