في أعقاب الحرب العالمية الأولى، شرع الرئيس الأمريكي «وودرو ويلسون» في العمل لكي يجعل العالم ديمقراطيا. ومنذ ذلك الوقت، دأب الرؤساء الأمريكيون بالسير على قرع طبول تلك المثالية «الويلسونية».
وبالفعل، يتم تنفيذ معظم السياسة الخارجية الأمريكية تحت ذريعة نشر الديمقراطية إلى بقية دول العالم، وقد تكون مثل هذه الذريعة في بعض الحالات اعتقادا حقيقيا. وبناء عليه، فان استخدام الرئيس الأمريكي (الحالي) «جورج دبليو. بوش» لتلك الحجة بخصوص ارتباطات أمريكا الخارجية لا يعتبر استخداما جديدا أو غير عادي. وقد يكون منطقيا أن تكون رسالة وكالات المخابرات الأميركية بما في ذلك وكالة الاستخبارات المركزية الـ (سي. آي. إيه.) والتي تم ذكرها حديثا هي أن يتم «دعم الديمقراطية وأن يتم الحفاظ على وإدامة الدول الديمقراطية المسالمة».
إن معظم الشعوب، بما في ذلك الشعب الأمريكي، تصيبهم الدهشة إذا علموا بان كلمة الـ «ديمقراطية» لا وجود لها في وثيقة «إعلان الاستقلال» الأميركية (1776) أو في «دستور الولايات المتحدة الأميركية» (1789) أو في تعديلاته العشرة الأولى التي تعرف باسم «لائحة الحقوق» (1791). كما انه ستصيبهم الصدمة إذا عرفوا سبب عدم وجود كلمة الـ «ديمقراطية» في الوثائق التأسيسية للولايات المتحدة الأميركية. وعلى النقيض لما تقوم الدعاية السياسية الأميركية بتوجيه جمهور الناس كي يتم تصديقها، فقد أبدت الشخصيات التي أسست أميركا - أي الآباء المؤسسون - شكوكهم وقلقهم تجاه الديمقراطية. فقد كانوا على وعي وإلمام بالشرور التي تصاحب الطغيان والذي هو في هذه الحالة طغيان الغالبية. وقد ذهب أولئك الذين قاموا بصياغة الدستور الأميركي إلى مسافات أبعد من ذلك كي يضمنوا بان لا تكون الحكومة الفيدرالية الأميركية معتمدة على إرادة الغالبية، وبالتالي أن لا تكون ديمقراطية.
وقد عمل الدستور الأميركي الأصلي على توطيد حكم القانون وعلى تثبيت الحدود التي تقيّد الحكومة. كما عمل ما يقارب نسبته 20 في المئة من هذا الدستور على وضع بنود لأشياء لا يجوز للحكومة الفيدرالية ولحكومات الولايات أن تقوم بعملها. وهناك نسبة أخرى تبلغ 10 في المئة من هذا الدستور لها علاقة بالمنح التي يتم التصرف بها للسلطات. وكذلك تتناول معظم مواد الدستور، والتي تقارب نسبة 70 في المئة منه، مفهوم أولئك الأشخاص الذين صاغوا الدستور والذي يتعلق بالواجب الرئيسي الموكول له وهو: أن يتم إخضاع الولايات المتحدة وحكومتها لحكم القانون.
والدستور الأميركي هو، بشكل أساسي، عبارة عن وثيقة بنائية وإجرائية تضع بنودا خاصة بأولئك الأشخاص الذين يجب عليهم أن يمارسوا السلطة وكيف يتوجب عليهم أن يمارسوها. وقام الدستور بتقسيم الحكومة الفيدرالية إلى فرع تشريعي وفرع تنفيذي وفرع قضائي وتم تصميم كل فرع بهدف ضبط وتدقيق بقية السلطات نظرا لان المؤسسين لا يريدون أن يعتمدوا على أصحاب الأصوات الانتخابية فقط كي يتم ضبط وتدقيق سلطة الحكومة.
ونتيجة لذلك، فقد تم منح المواطنين القليل من السلطة من ناحية اختيار المسئولين الفيدراليين. فالرئيس وأعضاء الهيئة القضائية ومجلس الشيوخ لم يجرِ انتخابهم بالتصويت المباشر من قبل الشعب، بل يتم فقط انتخاب أعضاء مجلس النواب عن طريق التصويت المباشر من الشعب. ولا يعتبر الدستور الأميركي بمثابة تركيبة أو صيغة ديكارتية (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي ديكارت) تهدف إلى هندسة اجتماعية بل هو عبارة عن شيء يهدف إلى حماية المواطنين الأفراد من الحكومة. وباختصار، فقد تم تصميم الدستور لكي يحكم الحكومة وليس ليحكم الشعب.
وإذا كان أولئك الذين صاغوا الدستور لم يقوموا بتبني الديمقراطية، فما الشيء الذي قاموا هم بالتمسك به؟ من ناحية المواطن العادي، اتفقوا على أن الغاية من أية حكومة هو أن يتم تأمين ثلاثية جون لوك الخاصة بالحقوق للمواطنين وهي حق الحياة وحق الحرية وحق الملكية. وقد كتبوا عن الحرية كتابات مكثفة وبليغة. كما كتب، على سبيل المثال، جون آدمز عن ذلك أيضا قائلا بأنه «في اللحظة التي يتم بها إدخال الفكرة التالية إلى المجتمع وهي أن حق الملكية ليس مقدسا كقدسية القوانين الإلهية وانه لا توجد هناك قوة قانون ولا عدالة عامة تقوم بحمايتها، عندئذ ستبدأ الفوضى والطغيان».
وفي غالب الأحيان تتحدث أفعال المؤسسين بصوت أعلى من أقوالهم. فقد تولى المحامي المتميز أليكسندر هاملتون كثيرا من القضايا الشهيرة بدافع من المبدأ الذي يحمله. فعلى سبيل المثال، وبعد الحرب الثورية التي قامت ضد القوة الاستعمارية وهي بريطانيا العظمى، قامت ولاية نيويورك بسن إجراءات صارمة ضد «الموالين» (لبريطانيا) وضد الرعايا البريطانيين. وقد اشتملت تلك الإجراءات على «قانون المصادرة» (1779) و»قانون الاستدعاء» (1782) و»قانون التعدي على الغير» (1783). وقامت جميع هذه القوانين بإدخال الاستيلاء على الملكية فيها.
وبحسب وجهة نظر هاملتون، فان هذه القوانين أوضحت الفارق المتأصل بين الديمقراطية والقانون. وحتى وإن كانت تلك القوانين تلقى شعبية على نطاق واسع، فأنها قامت بالاستهزاء من المبادئ الأساسية لقانون الملكية. وقام هاملتون بتحويل آرائه إلى أفعال من خلال الدفاع وبشكل ناجح عن أولئك الذين تم الاستيلاء على ممتلكاتهم في ولاية نيويورك بموجب التشريعات الثلاثة.
لقد تم تصميم الدستور الأميركي بغرض تأييد وتعزيز قضية الحرية وليس قضية الديمقراطية. ولكي يتم تطبيق ذلك، قام الدستور بحماية حقوق المواطنين الأفراد من الحكومة ومن زملائهم المواطنين. وللوصول إلى هذه الغاية، وضع الدستور قواعد واضحة لا لبس فيها وقابلة للتطبيق بهدف حماية حقوق الأفراد. وبالنتيجة، فان نطاق وقياس سلطة الحكومة قد تم تحديدهما بشكل صارم.
* أستاذ علم الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور، وهو زميل أقدم في معهد كيتو في واشنطن العاصمة، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1667 - الجمعة 30 مارس 2007م الموافق 11 ربيع الاول 1428هـ