يمكن اعتبار حديثي في مقالين سابقين بشأن «العودة إلى الذات وثنائية الهوية والحقيقة» مقدمة لمقالات لاحقة، وخصوصا فيما يتصل بنمط العلاقة بالمدنية الغربية، هذه القضية التي تشكل تحديا كبيرا أمام المهتمين بالعلاقات البينية من حيث الدين والسياسة.
والحديث عن العلاقة مع مدنية الغرب يستدعي الحديث عما هو المقصود بالمدنية أولا، فلعل بالإمكان تفسير اصطلاح «المدنية» - الحضارية في قبال البدائية وليس الحضرية في قبال البداوة - بأنها تعني ضوابط الحياة الاجتماعية التي تتشكل من عنصرين أساسيين وهما «الأخلاق والقانون»، فالأخلاق هي القيود التي يتقيّد بها الفرد ذاتيا في طريقة حياته وتعامله مع الآخر، والقانون هي القيود التي توضع على الفرد أو الأفراد من الخارج لتنظيم العلاقة مع الغير.
ولكن ضوابط الأخلاق والقانون تختلف بحسب التنوع الحضاري، بل حتى داخل الحضارة الواحدة وبحسب المراحل التاريخية المختلفة، ولذلك فعندما نتحدث عن العلاقة مع الغرب يتداعى هذا السؤال: ما هو المقصود بالغرب؟ فهل هو تلك البقعة الجغرافية الواقعة في غرب الكرة الأرضية فحسب؟ أم هو العالم المسيحي الذي دخل مع المسلمين في حروب صليبية تواصلت مئتي عام ولايزال يحتفظ بذهنية تاريخية عنها، فهو إذا العدو التاريخي الذي لن يتخلى عن عداوته للإسلام والمسلمين، ولن يكف عن كيده لهم مهما تلبس بلبوس المدنية وحقوق الإنسان؟ أو إننا يجب أن نتجاوز هذا الحاجز التاريخي المقيت، لننظر إلى الغرب على انه محصل المدنية الحديثة بكل تجاربها الغنية والمهمة جدا؟
ولكننا سنقف حينئذ أمام حضارة مرت بمراحل وتلونات مختلفة ومتفاوتة انطلقت من عصور الظلام، مرورا بعصور التنوير إلى عصر الحداثة وانتهاء بإرهاصات ما بعد الحداثة، وانبثقت تلك المدنية في سياق الدعوة إلى ما سماه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712 - 1778) «جرأة المعرفة» وهو صاحب الكتاب التأسيسي «العقد الاجتماعي» والذي كان يوما إنجيل الحركة التنويرية في أوروبا وخصوصا جيل الثورة الفرنسية، ومما جاء في ذلك الكتاب مقولته الشهيرة «يولد الإنسان حرّا ولكننا محاطون بالقيود في كل مكان».
وكان روسو يؤكد - خلافا لفولتير - على الاحتفاظ بمظلة الدين وقد ناضل من أجل ذلك طويلا، بل إن التاريخ الأوروبي في الأساس هو تاريخ ديني بامتياز، وكانت محاولات المتنورين تنصب في جهة الإبقاء على الدين قدر الإمكان، ولكن تلك المدنية تخلت - بعد معارك طويلة - عن التمسك بالمضمون الديني عندما تغلبت الفلسفة القائلة باستحالة الجمع بين الحداثة النقدية وبين المنظومة الدينية القائمة على الغيب.
فجرأة المعرفة - التي نادى بها روسو وفولتير وايمانويل كانط وأمثالهم - تعني الحق المطلق في السؤال، انتهاء بالليبرالية أي الحاكمية المطلقة للعقل في قبال الحاكمية المطلقة للنص الديني، ومع إن الكنيسة عارضت بشدة محاولات التنوير - حتى تلك المحاولات التي كانت تدعو إلى عدم التخلي الكامل عن الدين - إلا أنها - على الأرجح - لم يدر في خلدها يوما بأن الفكر النقدي سيذهب بعيدا إلى حد البحث في تاريخانية الكتاب المقدس وبالتالي زحزحة الأساس الرباني للمسيحية الكنسية.
ولكن توجد الآن دعوات في الغرب اصطلح عليها هناك «الثورة الصامتة» وهي تدفع باتجاه العودة إلى الدين، لا بالمعنى الكنسي القروسطي بل بمعنى العودة إلى الجانب الروحي والقيم المعنوية في الإنسان، أي البحث في محاولة تهذيب «العقل المادي» الذي أطلقته قوى الحداثة وعلى نحو ما يشير جان فرانسوا ليوتار، فيلسوف ما بعد الحداثة، أنها «إعادة اللجوء إلى الضمير كمصدر للفعل الإنساني وليست بمعنى العودة النكوصية للفكر الديني القديم».
وحينئذ فملاحظة مجمل هذه التحولات والتفاعلات في تلك الحضارة، بكل ما تحكيه من ديناميكية هائلة قد يبدو معها أنه من الصعب أن نتعقل موقفا محددا تجاهها لأننا سنتساءل عن الأساس الذي سيتم من خلاله تقييم تلك الحضارة الدائبة في التلون والحركة.
لكن ذلك لم يمنع من بروز آراء جازمة في هذا السياق حتى لدى الغربيين أنفسهم، فها هو صموئيل هنتغنتون يصر في كتابه «صِدام الحضارات» على حتمية الصدام في نهاية المطاف بين الحضارتين الإسلامية والغربية، على أساس التناقض بين الهويتين، وذلك لأنه لا يمكن أن تعرف أمة حقيقة انتمائها إلا بمعرفة ما يتمايز عنها ويباينها أي الذين لا تتفق معهم.
فوضوح الهوية إذا يقترن دائما بالشعور بتميز الذات والتضاد مع الآخر، وتحدث في هذا الكتاب - الذي قال عنه وزير خارجية أميركا السابق هنري كيسنجر إنه من أكثر الكتب التي نشرت بعد الحرب الباردة أهمية - عن اتجاهات مختلفة في بلاد المسلمين تجاه العلاقة بمدنية الغرب، إذ يوجد من يرى بأن طريق التحديث يجب أن يمر عبر المدنية الغربية، ومن هؤلاء مصطفى كمال أتاتورك والذي كان من الطلبة الأتراك الذين درسوا في الغرب أواخر الدولة العثمانية، ودهشوا لحجم التقدم هناك قياسا بمستوى التخلف في بلاد المسلمين ومنها تركيا نفسها - عاصمة الدولة الإسلامية يومذاك - وكان أتاتورك يقول: إنَّ المدنية الغربية أعطت تجربة ناجحة في قبال الدين الذي لا يملك نظير تلك التجربة وعلى طول التاريخ، ولذلك يجب التمسّك بتلك المدنية لأنها الطريق الوحيد للتحديث حتى لو أدى ذلك إلى نبذ الدين!
ولكن الكماليين - نسبة إلى كمال أتاتورك - وقعوا في ورطة المغالاة عندما ربطوا التحديث بضرورة تقمص الهوية الغربية كما يقول هنتغنتون: «إن هؤلاء يرون أن تقمص الهوية الغربية هو الباب الذي يفتح على بستان الحداثة فحتى الحروف العربية يجب استبدالها - في نظرهم - بالحروف الإفرنجية».
ويوجد اتجاه آخر يقارب هذا الاتجاه إذ يقول بحتمية التحديث على الطريقة الغربية، ولكن بسبب آخر وهو ما يمكن أن يسمى «الحتمية التاريخية» بمعنى أن السير التاريخي الحالي يجبرنا على قبول المدنية الغربية بغض النظر عن كون التغريب هو الخيار الراجح أم لا، وذلك لأن تلك المدنية تزحف إلينا بقوة ضاربة، ولا يوجد لدى الشرق أدوات فاعلة لإيقاف هذا الزحف الجارف، أو التخفيف من وطأته على الأقل، كيف وإننا الآن لا نملك شيئا من عناصر التقدم والإنتاج إذ أصبحنا مستهلكين للسلع والأفكار الآتية من هناك، فالعلوم الطبيعية والإنسانية التي تدرس في جامعاتنا ما هي إلا ترجمات عن الغرب بل إن جامعاتنا لا تعرف إلى حد الآن بعض التخصصات العلمية التي مضى على تدريسها في أكاديميات الغرب زمن طويل.
ولذلك فقد فات أوان التنظير في المفاضلة بين الحضارتين وأصبحت المدنية الغربية هي قدرنا الآتي شئنا أم أبينا بحيث أمكن القول - بحسب هذا الاتجاه - بأنه ليس المشتغلون الآن بالمفاضلة بين الحضارتين سوى أشخاص حالمين بغير واقعهم، فهم كمن ينتظر وصول قطار قد وصل فعلا وتجاوز المحطة ولكنه لا يعي ذلك فيجلس على كرسي المحطّة متأملا: إذا وصل القطار فبأي قدم أصعد إليه؟ اليمنى أم اليسرى؟!
ويلاحظ القارئ وجود جامع بين الاتجاهين وهو التسليم المطلق لحضارة الغرب، بل هويته أيضا لدى فئات أكثر تطرفا، ولكن الأتاتوركيين يسلّمون للغرب باعتباره الخيار الأفضل وأما الحتميون فهم يسلّمون للغرب باعتبار الحتمية التاريخية التي لا مفر عنها بحسب دعواهم، ولكن كلا الاتجاهين قابلان للمناقشة من خلال بلورة اتجاه ثالث يقف في الوسط بينهما، وذلك ما سأحاول استعراضه في مقال لاحق.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1666 - الخميس 29 مارس 2007م الموافق 10 ربيع الاول 1428هـ