لو يعلم البريطاني الجنسية الهندي الأصل جورج أورويل (ميت منذ العام 1950) أن شتى توقعاته التي أطلقها في روايته «الأخ الأكبر» العام 1948 في الدولة وشبحيتها الجديدة، لكان له أن يزعجنا من فرط اعتداده بنفسه! ولكن الرب سلّم.
أزعم ذلك في ضوء أن كثيرين منا اليوم يدركون أن عصرنا هو عصر رواية هذا الرجل، نعوم تشومسكي على الأقل قال ذلك صراحة. معللا «لأنه عصر السيطرة الشمولية وعصر تقنية السيطرة وعصر (الأخ الأكبر) بمرجعياته الفرويدية والماسونية».
لا يبدو الحديث عن سلطة الأخ الأكبر في المنزل ذا قيمة كبرى بالنسبة إلى الأفراد اليوم، ما خلا مجتمعات الشرق. أضف إليها في بعض الأحايين سلطاتٍ جديدة (الأخت الكبرى) مثال ذلك على الأقل.
الأهم من ذلك هو ما حوته قراءة جورج أورويل للصورة التي ستصل إليها الدولة الرأسمالية. اورويل اعتقد أنها صورة لن تقل شراستها وأنماط رقابتها وقمعها عن أي من النظم الشمولية أو الاستبدادية. أما «الفن» أو «الخفة» لدى جورج فهو انه استطاع تهذيب تلك المسميات التاريخية الكبرى إلى مسمى بسيط وخفيف الظل سلطة «الأخ الأكبر».
حاجة المريد إلى القهر
نحن لا ندرك في حقيقة الأمر خطورة «الدولة» حين تمارس السلطة والقهر والتحكم. الأبعد من ذلك هو أننا لا ندرك أننا «نحن» بما نمثله من محكومين من نمد أيدينا إلى الدولة لنساعدها على فعل ذلك. هكذا يطلق الماركسيون مقولتهم: «ينطلق مفهوم الأخ الأكبر تحت إرغامات الإشباع والتعويض التي يحتاج إليها التابع والمريد عادة!».
وبعيدا عن الحديث عن مفهوم الحاكمية ومفهوم المحكومين، وأنساق الحاكمية وأنساق المحكومين يتضح لنا أن الدولة في نمطها الحديث تبدو أكثر الأنساق خطورة على الإنسان الجديد. بوصفه هنا... الأخ الأصغر الغبي/ المخطئ/ الجاهل/ الذي لا يعرف مصلحته ولا يدير أموره جيدا. نحتاج نحن «الأغبياء» و «الذين لا نحسن التصرف» إلى أن نعطي الدولة دورها الطبيعي في أن توجهنا وتعلمنا وتهذبنا وتربينا وتمدننا وتفهمنا وتكرمنا وتنظمنا وتنمينا وتصحح سلوكاتنا وترأف بنا. وتبدو هذه الصورة أسوأ ما اعتقده إنسان عن نفسه. يبدو أورويل مرة أخرى محظوظا جدا. فهو لم يبقَ حتى يكون ببساطة «مثلنا».
الذين يهبّون للدفاع عن «الدولة» - أعني: المعنيين بالدفاع عن «الدولة» بوصفهم مسئولين وموجهين ومعلمين ومدربين على ذلك - هم في الغالب أكثر الناس التصاقا بالمنافحة عن سلطة الأخ الأكبر حين يتفرد بالقرار/ السلطة/ المجتمع. وطبعا لابد أن يكون للأخ الأكبر في أية عائلة كانت حلفاء في المنزل يستنفعون من وراء علاقتهم الطيبة به بالكثير من المزايا والهبات بما يشمل مساعدتهم على قمع بقية أفراد العائلة. وهذه زاوية أخرى مهمة لعل اورويل لم يولِها رعايته. ففي أي عائلة/ مجتمع فئات تستنفع وترتزق من وراء سلطة الأخ الأكبر. وهم في الغالب المنساقون على طلب المعيشة بالتطفل والاجتراء.
الدولة ما بعد المعولمة...
كان الإنسان في عهد جورج اورويل كثير «الكلام»، كثير «المطالبات»، كثير «الاحتجاج»، وكثير «الشك». وهو ما أثر سلبا على الدولة في عصر العولمة. ونحمد الرب مرة أخرى فلقد عادت «الدولة» اليوم في عصر ما بعد العولمة لماهيتها ذاتها قبل التنوير! تغيرت الأدوات التي كانت الدولة تمارس من خلالها دورها التاريخي في «القمع» و «إحكام سيطرتها على كل شيء»، أما النتيجة فهي واحدة، لم تتغير.
يعتقد البعض - يساريون طبعا - أن «نظرية الأخ الأكبر تفترض سيادة (نظرية الحلول) الطاردة للمراكز القديمة بكل نظمها اللغوية والفكرية والعرفانية. والنكوث عند استعدادات جديدة تكفل (تحوير) العقل الشرقي على مقاسات جديدة لكي يكون صالحا لدخول المدار الصناعي! مع احتفاظه طبعا بكل مرجعياته السحرية». أما سبب ذلك بالتحليل الماركسي فهو أن «العقل البروتستانتي - الرائد والمؤسس للدولة الحديثة المابعد عولمية - لا يملك مخيلة واسعة. فهو عقل برغماتي/ وظائفي. لذلك، يحتاج إلى جرعات عالية من المخيال الشرقي ليتوازن في إنشائه ومعاييره».
ألا نلاحظ أن «الأخ الأكبر» لا يمثل في توظيفه نسقا سياثقافيا بأكثر من اعتباره عودة لمجتمعاتنا إلى عصور ما قبل التنوير. وقس على ذلك إطلاقات أخرى رائجة هذه الأيام كـ: «العائلة الواحدة» و «الجسد الواحد».
هؤلاء - دعاة الأسرة الواحدة والمنادون بضرورة تفعيل سلطة الأخ الأكبر - يقرأون المجتمع بوصفه عائلة فإذا سرقك أخوك يجب أن تعفو عنه، وإذا قتلك أخوك الذي لا تعرف حتى اسمه فعلى أهلك أن يقبلوا عذر ابنهم الجديد! من دون أي إدراك منهم أو اهتمام بالمجتمع المدني بوصفه مجمعا إنسانيا يضم أناسا مختلفين لا يجمعهم سوى عقد اجتماعي رصين ومتفق عليه بين الفرقاء أصلا.
شرطة الفكر (الرقابة في دورات المياه)
اغتالت دولة (عمرو بن هند) الشاعر طرفة بن العبد الذي مات مقتولا بسبب تمرده وجرأته في نقد سلطان زمانه. أما بديع الزمان الهمداني فقد آثر أن يسند رأسه بكفيه. ليخبر الناس بعد أن نبش قبره - وقد دفن حيا - أن رأسه مازال يحمل بعض الأفكار التي قُبرت معه!
الفارق بين دولة عمرو بن هند والدولة اليوم - بحسب أورويل - هو أن دولة رأس المال اليوم تبرع في إنتاج «جهاز بيروقراطي ضخم اسمه (شرطة الفكر) بحيث يظهر هذا الجهاز صورة ذلك الأخ الأكبر طيلة الوقت وبشكل دائم على الشاشة كي تراقب الناس وتتابع عن كثب أدق وأصغر تفاصيل حياتهم اليومية».
صورة الأخ الأكبر في رواية أورويل تلاحق الناس وتتعقبهم بالعقوبة. في الشوارع، في غرف النوم، في الحافلات، في المدرسة، في المقهى، في المطبخ وفي الحمامات أيضا. وبتعبير إحدى الترجمات لأورويل هذا الأخ الأكبر «موجود في كل الأمكنة سواء من خلال صوره المتكررة أو الحال الشبحية التي جعلت الناس يرونه على مدار الساعة». لا حاجة إلى أن يكون لكل إنسان شرطي كما يسخر البريطانيون من أنفسهم. فلكل إنسان «كاميرا».
«الأخ الكبير يراقبكم» هذه خلاصة وجوهر «الحقيقة» في الدعاية لنظام الدولة الحديث باسم «الحب» و «الخوف» و «التطور» و «التنمية» و «الوطن» و «الكرامة» يسهل على أي فرد أن يصيّر الدولة لمصلحته/ لرؤيته/ لرأيه بصفته الأخ الأكبر.
الأخ الأكبر/ الدولة هي الوصي على الإنسان. هو زاوية الإدراك البعيد للذي يجب أن يكون ويحدث. في العام 1984 نمت ثقافة الأخ الكبير وشهدت على شاشات التلفزة الضخمة تفاصيل رواية كتبت في العام 1948. كان أورويل يكتب سيرة التطور من دون أن يدري. ولعله يدري. لن نمسك عن الرجل «الميت» حقه في نيل شرف «صدق النبوءة».
يذهب أورويل إلى اعتبار ممارسات الدولة أنها أشبه بممارسات التنويم المغناطيسي، وأنها تعمد إلى استغلال «حب» الناس للدولة بوصفها المنقذ من المخلِّص من قانون الغابة فتتحول إلى مارد جديد أشد فتكا وقساوة من قانون الغابة الطبيعي.
اليوم تطلق شتيمة الأخ الأكبر من قِبل الشعوب الغربية على رؤساء الدول هناك من باب التذكير بالرواية. وتشتهر حلقات الأخ الأكبر الذي يراقب عبر كاميراته سلوك إخوته الصغار في أفضل تمثيل مباشر لما كتبه أورويل. فهل كان أورويل يستحق الحياة ليشهد هذه اللحظات التي أصبحت فيها دول الغرب والشرق أبطالا حقيقيين لشخصيات كانت في صيف العام 1948 مجرد شخصيات وهمية؟ لعله يستحق.
العدد 1665 - الأربعاء 28 مارس 2007م الموافق 09 ربيع الاول 1428هـ