«بقلبٍ منفتح أتساوى به
مع كل كائنات الكون وموجوداته
تزداد ذاتي فيه يقينا
إني ككائن لا أكتمل إلا بالكون
في وحدّةٍ كاملةٍ مع الوجود»
لطالما تحاشيت الخوض في الحديث عن المرأة، وكل ما يتعلق بها من موضوعات، خصوصا في سياق ما يُطرَح بشأنها من أمور كأنها لا تخص كائنا غيرها مثل: «الحرية» و «المساواة» و «الحقوق»... وغيرها من الموضوعات التي تعج بها الكتب والشاشات والبرامج والمؤتمرات والندوات، التي غالبا ما تُرفَع فيها الشعارات المؤدلجة وتوضع أخرى، في أتونٍ محمومٍ، إن دلّ على شيء فإنه يدل بالدرجة الأولى على مدى الفوضى الفكرية التي نعيشها وغياب الوضوح المنهجي، وانعدام الأسس البنيوية لعلاج الظواهر الحياتية، كما تدل على أن مفهوم الكائن الإنساني الحرّ المبدع مازال بعيدا عنا كلّ البعد.
لأجل ذلك كنت أتعمد الابتعاد عن الجمعيات «النسائية»، لأن معظم ما وقعت عيني عليه حتى الآن، يتخذ من شعاراته أداة لتمرير مشروعات لا تخدم المرأة أصلا، ولا حتى الإنسان، وهذا ليس من باب النقد، أو التقليل من شأن ما تحاول المرأة جاهدة أن تقدمه وتحققه لنفسها، بل لأن هناك خطأ بنيويّا فادحا في الفلسفة التي تقوم عليها الممارسات المدافعة عن المرأة، فالمفاهيم المطروحة تنقل المرأة من واقع يختزلها، لواقع آخر ربما يكون أشد اختزالا لإنسانيتها، فتصبح عملية التحرر المزعومة عملية انتقال من عبودية لأخرى، ويصبح العنف مقنّعا أو من لون آخر.
إنّ فكرة وجود «جمعية نسائية» بحتة، هي فكرة عنصريّة بحدّ ذاتها تحاول استبعاد الآخر، أي «كل من ليس بامرأة»، وإقصاؤه ونفيه، تماما كالمجتمعات «الذكوريّة» التي تحاول نفي المرأة وإخضاعها، ففكرة «مجتمع نسائي» صرف يُكرس مبدأ الفصل بين البشر، ويؤدي إلى انشطار وانفصام الكائن المسمى انسانا.
وإذا ما أردنا أن نحلِّلَ ظاهرة العنف ضدَّ المرأة، لابد وأن ندرس ذلك من خلال سياقه الفكري العام، لأنّ أشكال العنف المُمَارس ضدَّها، ليس إلا صورة منعكسة للعنف الممارس ضد الإنسان، فالرجل يتعرَّض للعنف أيضا من قبل «السلطة»، وشتى الشرائح المجتمعية ترزح تحت وطأة العنف والقمع المنظَّم منه وغير المنظم، فحتى الأنظمة الحاكمة في الدول التي تُوصف بالضعيفة ترزح لسيطرة وهيمنة وعنف إدارات الدول التي تُوصف بالقويَّة، التي تمنح لنفسها الحق الحصري في تقرير مصائر الشعوب وخياراتها، بدءا من التأديب والحصار الاقتصادي وصولا إلى الاحتلال العسكري.
من دون شك فإن أشد أنواع العنف الموّلد هذا وأقساه يقع على الحلقة الأضعف في المجتمع «الذكوري»، على الطفلة الأنثى، فالعنف الممارس ضد النساء والأطفال، هو حلقة من سلسلة طويلة من العنف الموجَّه ضد الإنسانية، بل وضد الطبيعة الكونية، وهي أمور تنذر بكوارث حقيقية ما لم نسرع إلى تحرير عقولنا من شتى أنواع القيود ونبذ العنف بكلّ أطيافه ومستوياته.
مشاهد العنف ضد الكائنات
إذا حاولنا أن نتجرّد، ونخرج من الأطر الفكرية المعلَّبة، والأحكام المسبقة، والمرتكزات الاجتماعية والسياسية والدينية وحتى اللغوية... كيف تبدو مشاهد العنف على وجه البسيطة؟
إنّ المرأة تعاني من عنف الرجل، والطفل يعاني من عنف البالغين، والموظف يعاني من عنف مديريه، والمواطن يعاني من عنف السلطات، وأجهزة السلطة تعاني من عنف سياسة الأنظمة، والأنظمة السياسية - وخصوصا في بلادنا العربية - تعاني من عنف الدول الكبيرة، وهكذا في دوامة لا متناهية من العنف الصريح والمقنّع والمتحول والموّلد في آن معا.
كما يجب علينا ألا ننسى أننا ككائنات بشرية، منحنا أنفسنا حقّ ممارسة العنف ضدّ الكائنات الأخرى، فالإنسان يمارس العنف ضد الشجر فيقطع الشجر لغير حاجة ولا يزرع مكانها، فنسبة المجازر المرتكبة بحق الغابات تنذر بكارثة بيئية وفق آراء العلماء، كما أنّ الكائن الإنساني يُمارس العنف ضد الكائنات البيئية يوميّا فيعمل على حرق البيئة من دون رحمة، (فالولايات المتحدة وحدها على سبيل المثال تقدّم للبيئة 39.4 في المئة من نسبة انبعاث ثاني أكسيد الكربون المسبب للاحتباس الحراري وهي أعلى نسبة بين دول العالم الذي يصف نفسه بأنه متطور)، إضافة إلى أنّ الإنسان يمارس العنف ضدّ الحيوان، سواء عنف مباشر أو عنف مقنّع يتمثل في تعديل جيناته وراثيّا وتعديل منظومته الغذائية، الأمر الذي أدّى إلى انتشار الأمراض والأوبئة... هذا عدا انتشار الأسلحة الفتّاكة المدمرة التي مازلنا نعاني منها ككائنات على جميع الأصعدة، علاوة على الاستخدامات النووية بكل صورها وأشكالها «السلمية منها وغير السلمية»، فحتى ما يصرّح به أنه «سلمي» بحق الكائن الانساني، فهو «غير سلمي» بحق الكائنات الأخرى والطبيعة والبيئة والكون...
إذا، نحن ككائنات إنسانية ماذا قدّمنا للكون وللكائنات الأخرى سوى الخراب والدمار؟
فالكائنات البشرية تعتقد بأنني أرقى من شتى المخلوقات، متذرعة بشتى الحجج اللاهوتية وعاملة على تطويع المعنى المقدّس لصالحها، علما بأن الكائنات الأخرى لا تعمل إلا في إطارها الكوني العام وفي تناغم وظيفي عجيب مع بيئتها، وهي لا تضر نفسها ولا غيرها، في حين أنّ الإنسان يضرّ نفسه ويؤذي غيره، ويمارس العنف على شتى الكائنات بفوقية ونرجسيّة بالغة، وبقدر ادعائه للذكاء فإنه يمارس شتى أنواع العنف والتدمير.
كلّ ما أوردناه هو عنف نشاهده، نسمعه، ونمارسه، فالكائن يحاول فرض سلطته وقوّته، وكل سلطة تحاول امتلاك «الحقيقة» مستخدمة مفردات القدسي متستّرة بالكامل والنموذجي، وتدعي أنّ عليها تأديب من يقع تحت وصايتها، فتمنح نفسها حقّ ممارسة العنف على الآخرين وإخضاعهم لها باللين أو بالعصا وكلّ ما لا يصنع إلا الدمار.
طبعا يقابل هذا العنف عنفا مضادّا، فالمرأة تحاول مقاومة عنف الرجل أحيانا بعنف من لون آخر، وأحيانا بإسقاط العنف على أطفالها، والرجل يسقط عقدَه النفسية على زوجته، وحركات «المقاومة» تحاول أن تقاوم العنف بعنفٍ مضادٍّ بكل ما تملك، حتى لو أدّى الأمر إلى حرق الأخضر واليابس، وهكذا نجد أننا كشعوب سقطنا في أتونٍ محمومٍ من الحروب والويلات ودوَّامة من العنف والعنف المُضاد المتوّلد الذي لا ينقذنا من شروره إلا قدرة قادر...
إذا، لا بدّ من معالجة العنف ضد المرأة ضمن إطاره وسياقه الإنساني العام، ولا ينبغي ألا يكون مجتزءا ومختزلا لا يزيد الواقع إلا سوءا.
العنف سؤال الهويَّة
لقد ذهب الكثير من الباحثين إلى البحث عن تفسيرات علميّة لهذه الظاهرة. وإذا كان يبدو جليّا أن بعضا من هذه الدراسات، بيَّنت أن النظام الاجتماعي والسياسي والأخلاقي والقيمي والثقافي والوضع الاقتصادي والمستوى المعيشي، كلها عوامل تفسر هذه الظاهرة، غير أنّه من الملاحظ هو أن معظم هذه الدراسات والأبحاث لم تضع موضع السؤال علاقة العنف بتشكيل الهوية عند الكائن الإنساني.
الأمر الذي يجعل العنف ضد النساء، يبدو كظاهرة عرضيّة، وكمسألة طارئة في الزمان والمكان، كما يتجلَّى بكل وضوح في خطاب وسائل الإعلام المختزل الرديء، وهذا خطأ فادح لأن العنف ضد المرأة كما أشرنا ليس إلا جزءا يسيرا من منظومة عنف كبرى وواقع شديد القساوة والمرارة.
إنّ العلاقة وثيقة بين العنف وتشكّل الهوية عند الإنسان، إذ إن هذه الأخيرة تتأسس على مبدأ الهيمنة والسيطرة، على من يُصنَّف أنه أضعف، النساء والأطفال خصوصا، ومبدأ الهيمنة هذا قائم على تحكّم من يمسك بزمام السلطة، الذين هم الرجال في واقعنا لأننا ننتمي الى مجتمعات أبويّةٍ ذكورية، وهم من يتحكمون في وسائل الإنتاج المادي والمعنوي، وهم من يحتكر عادة وسائل العنف الفيزيقي المباشر والرمزي والمعنوي والديني.
كلّ ذلك يدعونا إلى طرح أسئلة منها: هل يُعدُّ العنف مكوّنا أساسيّا من مكونات تشكيل الهوية عند الكائن الإنساني؟ وإذا كان الأمر على هذا النحو، فبماذا يمكن تفسير هذه العلاقة؟ وهل تسعفنا المقاربات المعتمدة في تفسير الهيمنة على إيجاد تفسير علمي للظاهرة؟
إنّ العنف ضدَّ المرأة ليس حالة طارئة، هبطت من مكان مجهول، أو ظاهرة عرضيّة هامشية آنية تزول مع الوقت، ولكنه يُعدُّ بعدا مؤسِّسا للهويّة الإنسانية في المجتمعات.
فالبنى المنتجة للعنف متجذرة في الأسس البنيوية للأيديولوجيّات المتداولة في عالمنا بما فيها الأديان، ومتأصلة في البنيات الذهنيّة، والخلفيّات الفكريَّة للأفراد، وتُعدّ المركَّب الأساسي في بنية المؤسسات الاجتماعية بما فيها الأسرة، التي ترعاه وتحتضنه.
فالأنماط التربوية المُتَّبعة تُكرِّس العنف، وتعمل على إنتاج شروط إنتاج مجتمعات عنفية طائفية عنصرية من جديد، فالعنف يتحكَّم في اللاشعور الجمعي للمجتمعات البشرية ويُحرِّك دواليب الفعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي... على حدٍّ سواء، إنه جزء لا يتجزأ من المخزون الثقافي والايديولوجي وعصارة إرث تاريخي ضخم حافل بشتى أنواع الاضطهاد.
غير أنَّ كلّ ذلك لا يعني بحال من الأحوال، أنه حال ثابتة وظاهرة مطلقة وقدرٌ مبرم، غير خاضع لتغيّر الظروف التاريخية والاجتماعية التي تشهدها المجتمعات البشرية، وإنما المؤكد هو أن حدَّته تتفاوت بحسب المرحلة التي قطعها كل مجتمع بشري في طريقه نحو إحداث القطيعة مع الممارسات القمعية، في تطوّره نحو تحقيق التقدم والمساواة والرفاهية لكل نسائه ورجاله وأطفاله، وكذا لكل فئاته العمرية وطبقاته وشرائحه الاجتماعية.
نحو رؤية إنسانية كونية
إن التعقيدات الاجتماعية والانثربولوجيّة تضعنا أمام تحدٍّ يُملي علينا أن نفكر بشكل مغاير للمعهود، إن فكرة وجود «مجتمعٍ عادل» قائم على أيديولوجيا «العولمة» قد انهار تحت وطأة التعقيدات ولم يقدِّم لنا أكثر من نظرية «نهاية التاريخ»، والحوادث تجري اليوم بتسارع دموي، وكأن المستقبل معدوم، كما أنه لم يَعد ثمة حاضر، والصراعات بين الفرد والفرد، والفرد والمجتمع، تتعمق بإيقاع مخيف.
فلنهدأ ونخرج من حلبة العنف ودوامته، لنغادر الواقع إلى واقع آخر نبنيه وعيا وحسّا، ونطوي الزمان والمكان، فلنتجاوز الأفكار والمعتقدات، ولنعمل على تأسيس واقع ينبني على معرفة الكون الخارجي الذي يتناغم مع المعرفة الداخلية للكائن الإنساني فكيف لنا كبشر أن نحلم بمجتمع راقٍ متناغم ونحن نعمل على إفناء الكائن الداخلي الروحي الكامن فينا؟
إنّ اختلال التوازن المتعاظم، بين الروح والمادة بوصفها «مردودا» تُعرِّض البشرية للتهلكة، فالتعامل مع الإنسان المختزل بالواقع المادي المنبني على المصلحة المادية وربط قيمة الإنسان بمردوده وبالإنتاج المادّي فقط سيؤدِّي لا محالة إلا انهيار المجتمعات، لأن الروح بُعد أساسيّ من أبعاد تركيبة الإنسان.
فلنحترم الكون، ونحترم الطبيعة، ونحترم الكائنات، ونحترم ذواتنا بكلّ أبعادها، ولنحترم حرية أرواحنا، ولنغادر مستوى الواقع الدموي المحموم، إلى أفق مُشرقٍ، يرتكزُ على الوعي المنبني على التطوّر المتكامل للفرد روحا ونفسا وجسدا وقلبا، والرقي بالفردي والمجتمعي، وفتح أفق غير محدود للمحبة والتسامح.
إننا ككائنات إنسانيّة مخيرون اليوم وأكثر من أيّ يومٍ مضى، بين أن نتطوَّر على المستويات كافّة، أو أن نتلاشى ونختفي في أتون الصراعات والحروب، وهذا التطوّر الذي تقف الإنسانية اليوم على حافته أشبه ما يكون بمخاض الولادة، ويرتبط بالدرجة الأولى بالعلم والوعي والثقافة وعلاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة هذا الأخير بالكائنات.
وأن تكون كائنا كونيّا، فهذا يعني أنك منبثق عن حضرة التكوين، في هذه الحال أنت تتساوى مع كل كائنات الكون أمام المكوّن، وعندما نحترم كينونة الكائنات الأخرى، سنتناغم تلقائيّا مع ما يدور حولنا، فنحب الكائنات ونتوحد معها ونتجاوزها، لأن عملية التجاوز هي أساس الحرية والانعتاق.
عندها سنجدُ أنَّ ما من شيء وُجِدَ في الوجود والكون إلا تجلٍّ وجوديٍّ ومظهرٍ من مظاهر التكوين، وأنَّ ما من شيء إلا ويتغيَّر ويتطوّر في سيرورة مستمرة ونظام بديع، وتغدو كلّ المتناقضات والمتضادّاتِ مكمّلات لبعضها بعضا بحسب مستويات الواقع التي تنتمي إليها، عندها سنعي أنّه لا يوجد تطابق تامّ بين الأشياء بل كلّ كائن حالة قائمة والحقائق متعددة بعدد الكائنات وهي تجليات لمظاهر قدرة الخالق. لعلَّ هذه الرؤيا تفضي إلى عصرٍ جديد للإنسانية، قوامها روح التواضع، ومشاعر الامتنان للمكوّن، والودّ والاحترام لكائناته ومخلوقاته، فتصبح عملية اعتداء الكائن الإنساني على الكائنات الأخرى أمرا متعذّرا في إطار منظومة كونية لا متناهية.
* كاتبة لبنانية
العدد 1665 - الأربعاء 28 مارس 2007م الموافق 09 ربيع الاول 1428هـ