كانت رواية «طوق الياسمين» للروائيّ الجزائريّ واسيني الأعرج هي النصّ الأدبيّ الأوّل الذي تعرّفت فيه على هذا الكاتب الذي يشعل الكلمات توترا شعريا، وقلقا إبداعيا يتجلّى بتقنيات سرد مغايرة في كلّ نصّ روائيّ، وكانت روايته «سيدة المقام» (مراثي الجمعة الحزينة) هي آخر ما قرأته من أعمال هذا الكاتب الذي ربّما يكون من أهمّ الأصوات الروائية في الثقافة العربيّة، وتقع الراوية في 240 صفحة من القطع المتوسط عن دار ورد، وتأتي فصول الرواية كالآتي: مكاشفات المكان، ظلال المدينة، فتنة البربرية، حنين الطفولة، محنة الاغتصاب، الجمعة الحزينة، الجنون العظيم، البحر المنسيّ، حرّاس النوايا، إغفاءة الموت، ونهاية المطاف.
ولعلّ القراءة النقديّة حين تتناول البنية السطحية في الرواية فإن أبرز ما يمكن ملاحظته هو اللغة الشعرية العالية التي يبني بها الكاتب حكاية حبّ بين السارد/ الروائيّ، وبين مريم راقصة الباليه، وهما الشخصيتان اللتان تتشّكل بهما الرواية، أما الشخصيات الأخرى فهي شخصيات هامشيّة حول قطبي الرواية الأساسيين (الروائيّ/ راقصة الباليه)، وعلى رغم أن الكاتب ضمّن السرد الكثير من الألفاظ العاميّة المقتبسة من اللهجة المحلية الجزائرية، إضافة الى اللغة الفرنسية، فإن هذه اللهجة تحديدا كانت مضمنة ضمن الخطاب السرديّ العام بطريقة فنية رائعة، حتى لا يجد القارئ أن اللهجة المحلية خارجة عن بنية السرد ومستوياته اللغويّة، وبحسب الناقد باختين بالاعتماد على حميد لحمداني فإن «أسلبة الأساليب هي إدماج عدد من الأساليب الموجودة سلفا في الحقل الاجتماعي ضمن البنية الأسلوبية العامة للرواية، ولهذا تنقلب الرواية إلى ميدان تلتقي فيه مجموعة من النصوص المتباينة، بل والمتناقضة، بحيث تصبح بنيتها الأسلوبيّة متولّدة عن تفاعل عدد من الأساليب...».
والسؤال الذي به يمكن الولوج لبنية النص العميقة هو: هل إن قصّة السارد هي قصة حبّ تدور حوادثها في إطار التحوّل الذي أصاب المجتمع الجزائريّ، وانتشار الأصوليّة الدينية أو «حرّاس النوايا» على حدّ تعبير السارد، أم إن للحكاية بعدا آخر يمكن أن يُقرأ من خلال مقاربة النص مقاربة تعيد بناءه بعد تفكيكه لوحدات، يتمّ الربط بينها بعد إدراك العلاقة بين هذه الوحدات إذ تنشأ دلالة النصّ...
في صفحات الرواية نجد أن الحديث عن مريم وعن المدينة يتزامنا في كثير من الأحيان وفي كثير من المقاطع، وضياع المدينة وضياع الحبّ هما وحدتا النصّ الأساسيتين ومن خلال إدراك العلاقة بين هذين الوحدتين تنشأ دلالة النصّ، ومنذ البداية نجد السارد يربط بين المدينة وبين مريم قائلا: «كانت مريم وكانت الدنيا، وردة هذه المدينة وحلمها»، ثمّ يعرّج لتناول التحوّل الذي أصاب الشكل الخارجيّ للمدينة التي يصفها بقوله بعد موت مريم قائلا: «لكنها فجأة سقطت من تعداد الأشياء الثمينة التي ظلّت مدة طويلة تعتز بها البنايات والشوارع وقاعات المسرح وصالات الرقص والحارات الشعبية التي بدأت تتآكل على أطراف المدينة التي غيّرت طقوسها وعاداتها منذ أن بدأ حرّاس النوايا يزيحون سلطة بني كلبون ويستعيدون أمجاد الورق الأصفر والحرف المقدّس والسيوف المعقوفة وتقاليد رياح الربع الخالي...».
يقّدم السارد بعض الإشارات التي تدلّل على رمزية حرّاس النوايا الذي تمثّل هذه الأشياء دلالة دينية وتاريخية في خطابهم الدينيّ، فالورق الأصفر إشارة الى الكتب القديمة التي إذا ما قورنت بالفضاء الفلسفيّ والثقافيّ الحديث تعدّ هي الأشد دوغمائية والأشدّ اصطفاء للذات وتهميش الآخر، من خلال وصفه بالكفر أحيانا والزندقة أحيانا أخرى، رابطة هذا الخطاب بالمقّدس الذي أشار إليه بالحرف دلالة على استثمار النصّ الدينيّ لشرعنة مقولات هذا الخطاب... من دون أن يتجاهل العنف الماديّ تزامنا مع العنف الرمزيّ في إشارة الحرف المقدّس التي ذكرت سابقا، إضافة الى الأصل البدويّ الذي انبثق منه هذا الخطاب، وذلك في الإشارتين اللتين قدّمهما وهما السيوف المعقوفة (سيوف العرب)، وتقاليد الربع الخالي دلالة على الفضاء الاجتماعي الذي انبثق منه الخطاب الدينيّ وانتشر بعد ذلك...
بعد ذلك يتساءل السارد قائلا: «كيف تجرأت المدينة على قتل مريم في هذه الجمعة البائسة؟»، والجمعة هنا لها دلالة تجمع بين المتناقضين، فهي ليست الجمعة المقدّسة كما هي دلالة الجمعة في بنية الخطاب الدينيّ، ولكنها جمعة بائسة، وصفا لهذا الخطاب الذي حوّل دور الثقافة والصالات والمسارح الوطنية والمدارس الفنية الى ملاجئ لنجدة المنكوبين...
وفي صفحة 181 يرصد السارد التحولات التي أصابت البنية الفكرية والاجتماعيّة للمجتمع الجزائري بعد أن اخترقت هذا المجتمع مقولات الخطاب الدينيّ، يعود السارد لتأكيد التزامن بين مريم وبين المدينة، إذ يبدأ السارد بقوله: «الصمت يلفّ الأرصفة ولا تسمع إلا خيوط التليفون العارية، والكهرباء وهي تئنّ في زاوية داخل هذه المدينة التي لم تعد لنا. خسرت روحها وأشواقها»، ثمّ ينتقل للقول «هناك شيء تصدّع في الداخل. هل أصرخ بأعلى صوتي؟ لا صوت لي وسط هذا الفراغ المقلق وهذا الحنين الذي يبحث عن بقاياه داخل الحصى والأسفلت. ماذا بقي منك الآن يا مريم؟».
عند إدراك هذا التزامن بين مريم والمدينة، وبين التحوّل الذي أصيبت به مريم بعد أن اخترقت الرصاصة رأسها والتحول الاجتماعي بعد مجيء حرّاس النوايا، يمكن أن ندرك أننا أمام وحدتين أساسيتين تتضافران من أجل بناء صورة كاملة للتحوّل في جميع أبعاده الإنسانية والحياتية، وما الرصاصة في رأس مريم إلا صورة من صور التحوّل، والصراع بين الحياة والموت حيث بقاء الرصاصة هكذا، ومحاولة مريم التكيف مع هذه الرصاصة ووجوب المحافظة على سكونها وثبوتها، وبين رغبتها العميقة في الرقص ما هي إلا إشارة تدلّ على صورة هذا الصراع بين حياتها وموتها. فمريم في بنية النصّ العميقة تمثّل الحضارة والثقافة فهي راقصة الباليه التي تذوب عشقا في الرقص، وفي عازفها المفضّل كورساكوف وتحديدا في معزوفته رقصة شهرزاد، وهنا يرسم السارد صورة متناقضة بين خطاب حضاريّ مغاير يستثمر التراث العربيّ في أشد تجلياته جمالا وبين خطاب عربيّ يستثمر تراثا عربيا خاويا، عنيفا، خرافيا، والذي تمثّل في نوع القراءات (أهوال القيامة، عالم الملائكة) التي يقرأها عمها الذي تحوّل ليكون أحد حراس النوايا بعد أن جرح في فحولته الجنسية. وهنا يقدّم السارد نقدا للخطاب الأصوليّ من خلال رسم صورة أن التحول جاء نتيجة طبيعية لانجراح الفحولة الجنسيّة/ انجراح الذات العربية، وذلك عموما من خلال الأزمات التي توالت على الأمة العربية وانجراح هذه الذات في هويتها وخصوصا المجتمع الجزائريّ حيث الفضاء الاجتماعي للنصّ وللحدث الروائيّ. حيث يتمترس المجتمع بمكونات التراث ومقولات الهوية التي تصبح استعادتها هي صليب الخلاص...
في السياق ذاته ومن خلال علاقة مريم بزوج أمها (العباس/ عمها)، يرسم السارد علاقة ملتبسة، إذ لا تدري مريم إن كان زوج أمها هو أبوها، أم إن زوج أمها الأوّل (بلحسن) هو أبوها، وهذه العلاقة الملتبسة وعدم معرفة الأب الحقيقيّ لمريم تدلّ على ضياع الهوية الثقافية والحضاريّة للمجتمع الجزائريّ، وذلك من خلال إدراكنا أن مريم تمثّل الحضارة والثقافة في بنية النصّ العميقة.
ومريم من حيث هي أنثى تمثّل المدنية والحضارة والثقافة الحديثة تجابه خطابا أصوليا دينيا يقدّمها على ما جاء في الرواية بأنها «بنت زنى» وذلك في محاولة لجعل علاقاتها غير شرعية، وبأنها بنت غير شرعية لأبيها، وفي السياق ذاته يرسم السارد صورة ما يقدّمه الخطاب الأصولي في وصف الثقافة الحديثة بوصفها إلحادية، وعلمانية، تتحلّل من الدين وإنها ليست نتاج التجربة الحضارية والتاريخية للإسلام. قائلا في الجزء الثاني من الرواية: «تقول مريم، تقتلون من؟! قالت: أعداء الله! وشكون أعداء الله؟ قالت: الشيوعيون، حزب فرنسا، البربر، البعثيّون، الملحدون، العقلانيون، اللائكيون وأصحاب دعوات تحرير المرأة، نساء الجمعيات النسويّة، جمعيات العهر، والفسق، والحكام، والرعية، ومسئولو أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وكلّ من يحذو حذوهم...».
في الجزء الثاني يبدأ السارد برصد التحولات التي أصابت البنية الفكرية والاجتماعيّة للمجتمع الجزائريّ كما ذكرنا سابقا، إلا أن الكاتب/ واسيني الأعرج أسقط النصّ السرديّ في هوّة التقريريّة والمباشرة، ما أحال النصّ الأدبي الذي كان في قسمه الأول وفي غالبية صفحات القسم الثاني متوترا، قلقا، متشظيا، إلى مقالٍ حجاجيٍّ، عقلانيٍّ، ما أدى الى إغلاق النصّ عن تعدد القراءات، إذ اتّضحت الصورة التي أراد أن يرسمها في القسم الأول من النص السرديّ، لكنها في القسم الأول كانت مفتوحة الدلالة وقابلة لتعدّد القراءات، فجاء الكاتب ليغلقها بقراءة واحدة، حجّمت دور القارئ كثيرا عن انتاج النصّ وممارسة فعاليّته، وفي السياق ذاته الذي يرسم السارد فيه صورة التحول الاجتماعي يصف مريم من حيث دلالتها على الثقافة والحضارة والمدنية على أنها بعد أن انسحبت، وخلّفت المدينة كما وصفها بقوله «لا شيء آخر يملأ المكان سوى هذا السواد»، ما زالت في عقله (مريم) حتى بعد انسحابها وموتها إذ يقول: «ها أنت تعودين مثل الريح الساخنة التي صارت تملأ هذا الدماغ المتعب. وجهك غارق بين غبار الكتب والأسطوانات والأشرطة»، وكلمة المكان تدلّ دلالة عميقة على هزيمة الثقافة والحضارة والمدنيّة إذ تحوّلت المدينة وأصبحت مجرّد مكانٍ بعد أن ازدهرت بالصالات ومظاهر المدنية والحضارة. هذه الـ مريم/ المدنيّة، التي مازالت تملأ الدماغ المتعب للسارد على رغم هزيمتها اجتماعيا غرقت بين غبارٍ هو غبار الكتب والأسطوانات والأشرطة، وهذه الأشياء يقدمها السارد باعتبارها تجليا من تجليات الحداثة والمدنية، إلا إنه يقدّمها في صورة غبار دلالة عدم استخدامها وفعاليتها واقعيا، فهي ككتاب يعلوه الغبار في رفّ المكتبة...
بدأت الرواية وانتهت بعد أن أرادت مريم أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من مجتمع تعصف به الحوادث والتغيرات الفكرية والاجتماعية والسياسية فأصابتها رصاصة طائشة، «رصاصة بلا معنى كغيرها من الرصاصات الكثيرة التي اخترقت صمت المدينة في تلك الأيام»، وذلك في يوم الجمعة تحديدا...
بقيت مريم رهينة حال لا هي الموت ولا هي الحياة، تتمزّق بين رغبتها في الرقص باعتباره مظهرا من مظاهر الحياة والمدنية وبين صمتها واستجابتها ورضوخها لما تستدعيه الرصاصة في رأسها كي تبقى ثابتة، ومريم في صراعها بين هذا وذاك تصرّ أن ترقص للسارد رقصتها الأخيرة والتي كانت من أكثر مشاهد الرواية عنفا وتوترا في تصوير الحال الشعورية. وأعود لأقول إن مريم في صراعها تجابه خطابا أصوليا يصفها بأبشع الصفات لكنها في النهاية تموت، وتخلّف وراءها مكانا موبوءا بالصمت والوحشة والسواد، ويبقى حرّاس النوايا بحروقهم المقدّسة وسيوفهم المعقوفة يسيطرون على المدينة التي تآكلت، وبقي وجه مريم غارقا في غبار الكتب وفي رأس السارد.
وبحسب حميد لحمداني في كتابه «القراءة وتوليد الدلالة» فإن التواصل لدى فولفغانغ آيزر «يستدعي القارئ فعلا إلى اقتحام البنية النصية بفكره ورصيده المعرفيّ، وهذه الحال لا يحققها إلا نصّ متميّز، وهو النصّ الذي بناه صاحبه وفق استراتيجية خاصة، تترك كثيرا من الثغرات في تضاعيفه، فيجد القارئ نفسه مضطرا إلى ملئها»، ورواية «سيدة المقام» تتيح باعتبارها نصا متميّزا إلى عدّة مقاربات تؤدّي بالتالي الى ما يقوله لحمداني عن التواصل بأنه «نوع من التفاعل الوجوديّ بين الذات القارئة والبنية النصية لتوليد معنى ما».
* كاتب تونسي
العدد 1665 - الأربعاء 28 مارس 2007م الموافق 09 ربيع الاول 1428هـ