العدد 1664 - الثلثاء 27 مارس 2007م الموافق 08 ربيع الاول 1428هـ

من مدينة الصدر إلى جنوب لبنان... قصة عمار العراقي

محمد حسن العرادي comments [at] alwasatnews.com

عمار شاب عراقي ولد في مدينة الثورة، ونشأ وترعرع فيها وشاهدها تَلَفُّظ اسمها القديم لتحمل اسم مدينة الصدر؛ تيمنا بالشهيد السيدمحمد صادق الصدر الذي اغتاله حكم الطاغية المقبور صدام حسين، ولكن عمار - الذي أُجبِر على القبول بمرارة العيش في ظل النظام البعثي السابق وقسوته وجرائمه على مدى أكثر من ثلاثة عقود - وجد نفسه غير قادر على الاستمرار في البقاء داخل العراق بعد أن احتلته القوات الأميركية.

لم يكن عمار وحده الذي فكر في الهروب من جحيم الحياة في ظل الاحتلال الأميركي، الذي جاء بوعود براقة كثيرة، يسوّق للديمقراطية ويزف البشرى للعراقيين أن فجر تحريرهم من ظلم صدام الذي استباح كل ما لديهم قد حان، ولكن العراق تحت إدارة المحتل الأميركي تحوّل إلى بلد لا يأمن فيه المرء على نفسه أو على أهله أو على ماله وعلى ممتلكاته، وأصبحت ضريبة الدم التي يقدمها العراقيون تأتي في أية لحظة، ومن دون مقدمات بعد أن كانت تتم وفق آلية ترتبط بدرجة معارضة النظام البعثي.

شعر عمار وغيره كثير من أبناء العراق وخصوصا الشباب منهم، بأنهم قد خرجوا من كابوس إلى آخر أشد فتكا، فالمحتل الذي أطبق على بلادهم منذ مارس/ آذار 2003 قد حوّلهم إلى طرائد، ينتظرون القتل في أية لحظة، ولكنهم لا يعرفون من الذي يطاردهم، ولا يعرفون الطريقة التي سيدفعون بها حياتهم أو الأسباب التي سيقتلون من أجلها ولا المكان الذي سيتم اغتيالهم فيه أو البقعة التي سيدفنون بها!

العراقيون أصبحوا يعدون أيامهم ويتفقدون أطرافهم وأفراد أسرهم كل صباح، ويحملون أمتعتهم الخفيفة معهم دائما ليختاروا بين هجرتين، هجرة داخلية يتنقلون فيها من مدينة إلى أخرى بحثا عن الأمن، وهروبا من القتل على الهوية وحفاظا على أرواح صغارهم، وهجرة إلى خارج الحدود لئلا يدفعوا حياتهم ثمنا لسيرهم على أحد الطرقات، أو بسبب وجودهم في مسجد أو حسينية حتى مرقد مقدس من مراقد الأئمة الأطهار (ع).

عمار وثلاثة من أصدقائه الشباب اختاروا الهجرة إلى الخارج، ولكن ظروفهم وإمكاناتهم المالية لم تكن تسمح لهم بذلك بشكل اعتيادي، فهم لا يمتلكون حتى وثائق سفر يمكن أن تساعدهم على تدبر وظيفة مهما تدنى مستواها في أي قطر مجاور، وكل ما كان لديهم هو العزيمة على الخروج من العراق بأي ثمن، وعبر أية وسيلة حتى لو كانت مغامرة الهروب من الجحيم سيرا على الأقدام.

التقى الشبان الأربعة في مدينة الصدر. تبادلوا الآراء وبحثوا فرص الهروب من العراق. كان أمامهم أن يجتازوا الحدود إلى أية دولة مجاورة، ثم العبور إلى وجهتهم الرئيسية. درسوا الأمر جيدا، واستعرضوا السبل إلى الهروب، فكان أن قرروا الهروب إلى لبنان من طريق سورية، ولكن الطريق لم يكن مفروشا بالورود.

حمل كل واحد منهم كل ما يملك من ثروة، وتسلح بالعزيمة وبطاقة الهوية، وفي ظلام إحدى الليالي انتقلوا إلى محافظة الموصل خلسة. كان من المفترض أن يلتقوا دليلا يساعدهم على الانتقال إلى سورية في اليوم الثاني، ولكن الدليل تأخر في الوصول، فما كان منهم إلا اللجوء إلى أحد الفنادق بدعوى أنهم جزء من وفد رياضي سيُستكمل قريبا ليلعب عددا من المباريات في الموصل، وعلى رغم أن صاحب الفندق لم يكن يعبأ بهم وبالسبب الذي جاء بهم، فإنهم ابتكروا ذلك السبب لضمان سرية تحركهم.

وحين انقضى أسبوع كامل من القلق والترقب وصل الدليل، فغادروا معه على عجل إلى منطقة البوبعاج على الحدود مع سورية. هناك سهّل لهم الدليل الدخول بطريقة التهريب إلى منطقة البحيرة في القطر السوري، وكان على الدليل أن يعبر بهم إلى الحدود السورية اللبنانية، ولكنه اكتفى بالقسم الأول من الخطة، ثم اختفى من دون كلام وتركهم لمصيرهم المجهول!

وجد الشباب العراقيون أنفسهم في الصحراء. بحثوا عن ملجأ فلم يجدوا سوى بيتٍ خاصٍ بمهربي الأغنام بين الحدود العراقية السورية فلاذوا به، ولكن السلطات السورية عرفت بوجودهم بواسطة أحد الوشاة، وخرجت في طلبهم، فما كان منهم إلا الهروب مرة أخرى. تاهوا في الصحراء، وأخذ منهم العطش والجوع مأخذه وظنوا أنهم هالكون لا محالة.

قادهم البحث عن الماء إلى منطقة يوجد بها البدو. استضافوهم وقدموا إليهم الماء والبطيخ. شربوا حتى رووا وأكلوا حتى شبعوا، ثم ناموا ليلتهم في ضيافتهم، وحين أصبح الصباح شحذوا الهمم باتجاه السيدة زينب (ع)، هناك التقوا عددا من العراقيين المهجرين الذين استضافوهم ووفروا لهم الأمن والأمان. مكثوا هناك عددا من الليالي والأيام في انتظار العثور على دليل يوصلهم إلى لبنان.

حينما تعرفوا إلى أحد المهربين عبر الحدود السورية اللبنانية، كان الأجر المطلوب من كل فرد 50 دولارا أميركيا، ولكن المهربَ رق لحالهم وقبل بمبلغ 30 دولارا لكل واحد، وعندما سلموا المبلغ المطلوب، كان عليهم أن ينتظروا حتى يكتمل العدد وتكتمل الخطة، وفي اليوم الموعود غادروا في سيارة واحدة وهم 12 شخصا إلى الحدود اللبنانية.

اخترقوا الحدود عند إحدى النقاط بواسطة الدليل صاحب السيارة الذي أنجز مهمته، فسلمهم إلى دليل آخر داخل الحدود اللبنانية. هناك باتوا ليلتهم حتى اليوم الثاني حين أخذهم الدليل إلى الطريق المؤدي إلى بيروت بواسطة شاحنة، وكانت الخطة تقتضي أن يخفف الدليل سرعته ليقفز إلى الشارع 2 من الشباب في كل مرة، وعندما اكتملت عملية تسريبهم إلى طريق بيروت، التقى الشبان الأربعة مرة أخرى، وهكذا وصلوا إلى بيروت ولم يكن عمار يمتلك أي مبلغ من المال بعد أن أنفق 100 دولار التي كان يمتلكها على الهروب من جحيم الموت في العراق، فهل تُكتب له حياة أقل خطرا في لبنان؟

عندما وصل الشبان الأربعة إلى بيروت اتصل كل منهم بمعارفه، فافترقوا ليعيشوا حياة التخفي من دون إقامة أو جواز سفر، وكان عليهم أن يقبلوا العمل بأي أجر من أجل أن يتمكنوا من العيش في لبنان. كانت الفرصة الأسهل هي اللحاق بالعمل في مجال البناء، عمالا أجراء باليومية، وهكذا استقرت بهم الحال حتى حصل عمار على فرصة عمل بمحل لبيع السجاد. مكث فيه نحو 6 أشهر، حتى إذا أتى الصيف، طلب منه صاحب العمل أن يبحث عن عمل آخر، فسوق السجاد تصاب بالكساد في فترة الصيف.

وهكذا قادت الظروف عمار إلى الهجرة مرة أخرى إلى منطقة الجنوب اللبناني. هناك تعرف إلى أهل الجنوب ومكث معهم سنتين، حتى جاء شهر يوليو/ تموز 2006، فأصبح يعيش تحت القصف الإسرائيلي الذي طال كل مدن الجنوب وعددا كبيرا من مناطق لبنان.

خرج عمار من تحت القصف الأميركي للعراق ليجد نفسه تحت القصف الصهيوني للبنان، ولكنه كما قال لي: وجد في أهل الجنوب بديلا من أهله في العراق، وعرف أن الإنسان لا يستطيع الهروب من قدره دائما؛ لذلك قرر الصمود مع الجنوبيين الذين احتضنوه واحتسبوه واحدا منهم، ولم يضيقوا به ذرعا حتى وهم يقضون 33 يوما تحت وابل من القصف الذي لم يكن يميز أحدا من أحد.

استقر عمار في بلدة العديسة الجنوبية، واستفاد من العفو الرسمي الذي صدر عن السلطات اللبنانية في ترتيب أوضاع المهاجرين غير الشرعيين، ثم استخرج جواز سفر جديدا من السفارة العراقية في بيروت وأنجز إقامته الرسمية، ولأنه اختار لبنان وطننا بديلا حتى تستقر الأوضاع في بلده الأم العراق؛ فإنه قرر الاقتران بإحدى بنات جنوب لبنان؛ ليجسد الوحدة في المصير بين أهل العراق وأهل لبنان الذين يقاسون من القنابل الأميركية الغبية ذاتها.

عندما ودعته في زيارتي الأخيرة لبلدة العديسة الجنوبية، كان متحمسا للحياة متفائلا بأن فجر العراق سيأتي لا محالة، مستبشرا بقدوم أخيه ياسر إلى الجنوب، فلقد أصبحت له عائلة ولو صغيرة في انتظار لم الشمل، حين يعود الأمن إلى مدينة الصدر وكل العراق، ويخرج المحتل الأميركي وتنسحب الجماعات الإرهابية أو يتم القضاء عليها.

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"

العدد 1664 - الثلثاء 27 مارس 2007م الموافق 08 ربيع الاول 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً