انتهى العام الرابع وبدأ العام الخامس على الغزو والاحتلال الأميركي للعراق، ذلك الذي بدأ في مارس/ آذار 2003، تغيرت الوقائع والتواريخ، ولم تتغير طبيعة الحوادث ونوعية الصراع، الدم لايزال يجري كأنهار العراق يلفه الحزن التاريخي الدفين.
اختلفت صور احتفالات الأطراف المتقاتلة بهذه المناسبة: فالطرف الأميركي على لسان الرئيس بوش لايزال يصر على أنه أنجز الكثير، ويبشر بأن النصر قادم، فترد المقاومة المعارضة بضربات دموية قاتلة لها مغزاها.
رد المقاومة تمثل في استهداف شخصيات رسمية بارزة، بمحاولة اغتيال نائب الرئيس العراقي عبدالمهدي ثم محاولة اغتيال نائب رئيس الوزراء الزوبعي، وبين المحاولتين جرى قصف مقر المؤتمر الصحافي الأول للسكرتير العام للأمم المتحدة بان كي مون خلال أول زيارة له لبغداد، ورأينا كيف اهتز الرجل على وقع الانفجار برد فعل تلقائي محاولا النجاة.
لكن الرسالة كانت واضحة، أرادت بها المقاومة التي يختلف على هويتها وأساليبها وأهدافها كثيرون، أن تبلغ الأمم المتحدة أن الاحتلال الأميركي على رغم زيادة قواته لم ينجح في فرض الاستقرار، وأن تبلغ الحكومة العراقية أن خطتها لفرض الأمن على بغداد قابلة للاختراق وصولا لقلب المنطقة الخضراء التي يفترض أنها بالغة التحصين والحماية تحت الحراسة الأميركية المباشرة.
الصراع المستمر!
ولا يستطيع المراقب أن يدعي أن أحوال العراق اليوم في ظل الاحتلال أصبحت أفضل مما كانت عليه قبل أربع سنوات أو خمس سنوات، بل هي تجري نحو الأسوأ والأخطر، صحيح التغير الأساسي تمثل في سقوط نظام صدام فعلا، لكن شيئا ما أعلنته أميركا كأهداف استراتيجية لها، لم يتحقق، فالدولة العراقية انهارت فعلا، والدمار المتعمد عم الكل بشرا وحجرا والثروة القومية (النفط) يتسرب معظمه بالسرقة والتهريب والاحتكار، والتقسيم على أسس طائفية وعرقية يمضي قدما والحرب المذهبية تدمي الأجساد والقلوب.
نقرأ «بمرور هذه الذكرى فإن كل الأسباب والدوافع للحرب تكون قد تكشفت، وسقطت كل الذرائع والشعارات التي رفعتها الإدارة الأميركية، لقد بدأت هذه الذرائع بحجة أسلحة الدمار الشامل العراقية، وانتهت بالترويج لبناء نظام ديمقراطي» وعلى رغم أن هذا الكلام منسوب لصحيفة عراقية نشرته قبل أيام، فإنه في الحقيقة لا يختلف عما تنشره الصحف الأميركية، مثل «نيويورك تايمز»، «واشنطن بوست»، لقد أيقن الجميع من النتيجة.
الكل يجمع على أن مبررات الحرب على العراق كانت كاذبة وملفقة، فلا الاحتلال وجد أثرا لأسلحة دمار شامل، ولا هو أقام النموذج الديمقراطي في العراق، ليكون ملهما لكل دول الشرق الأوسط، كما سبق للإدارة الأميركية أن قالت... لقد حدث العكس!
فقد ذهبت الجيوش الأميركية «الأقوى والأحدث في العالم» لتغزو العراق وتحتله، وكأنها في نزهة خاطفة لتحرير العراق من الاستبداد وتدمير أسلحة الدمار الشامل وإقامة النموذج الديمقراطي وها هي اليوم تبتلع الاهانات التي تلاقيها يوميا في ميادين القتال، من دون أن تستمتع بالنزهة ولا أن تحقق النزوة.
وها نحن أمام نتائج مباشرة وسريعة لفشل الاحتلال الأميركي، لعل أبرزها الحرب الطائفية وخصوصا بين السنة والشيعة وإطلاق تقسيم البلاد على أسس طائفية وعرقية، بين العرب والأكراد، وبين الشيعة والسنة، وتدمير الدولة المركزية القادرة، حتى في المستقبل على إعادة توحيد العراق، ناهيك عن نحو 800 ألف قتيل وتهجير مليوني عراقي إلى الخارج ومليون آخر في الداخل نتيجة حروب التطهير الطائفي والعرقي، وسط مناخ من العداء المستحكم.
وبالمقابل، علينا أن نذكر الرئيس بوش، بتساؤله التاريخي، الذي قاله بعد تفجيرات نيويورك في 2001 «لماذا يكرهوننا»، ولعلنا بعد كل هذه السنوات العاصفة الملوثة بالدماء نرد إليه تساؤله قائلين، هل عرفت الآن لماذا يكرهونكم!
الكراهية والعداء لهذه السياسة الأميركية المتغطرسة لم تعد قاصرة على الشعب العراقي أو على العرب والمسلمين فقط، ولكنها كراهية امتدت عبر العالم ووصلت إلى حد المعارضة الواسعة في أميركا ذاتها لاستمرار هذه المقتلة، التي أعادت لأميركا أكثر من ثلاثة آلاف جندي قتيل وأكثر من 25 ألف جريح، فضلا عن مئات مليارات الدولارات، التي استنزفت الموازنة الأميركية وصارت نقطة القوة في أيدي الكونغرس والحرب الديمقراطي للإجهاز على ما تبقى من سمعة وصدقية الإدارة الجمهورية برئاسة بوش.
ربما يكون الانجاز الرئيسي الذي حققه بوش باحتلال العراق وتدميره، هو الاتفاق النفطي الذي تم توقيعه «أو فرضه» أخيرا على الحكومة العراقية التي لا تملك حق الاعتراض، والذي يمنح للشركات النفطية الأميركية حق احتكار نحو 80 في المئة من مخزون النفط العراقي الهائل، فهل يساوي ذلك الاتفاق كل ما جرى... أشك!
الآن نعود إلى فشل الحلم الأميركي بإقامة نموذج ديمقراطي رائد في العراق لنقول إنه إذا كانت نزهة الحرب قد فشلت على نحو ما نرى، فإن نزوة الديمقراطية قد أجهضت هي الأخرى، ليس في العراق فقط بل في الفضاء العربي للغرابة!
ونزعم أن الإدعاء الأميركي بإقامة النموذج الديمقراطي في العراق تحت الاحتلال وبقوة القهر المسلح إلى جانب أساليب الضغط الأميركي السافر على الحكومات العربية، لإجراء إصلاحات ديمقراطية عاجلة، قد أدى في النهاية إلى ما نحن عليه الآن، أدى على إجهاض مسيرة القوى الوطنية والديمقراطية في بلادنا الضاغطة على حكوماتها لإقرار الحريات والحقوق الديمقراطية النابعة من حاجاتنا ورغباتنا وأساليبنا الوطنية والقومية بعيدا عن شبهة التدخل الأجنبي.
وبقدر ما راوغت حكوماتنا الضغوط الأميركية، بالاستجابة لها ثم التراجع السريع بقدر ما وجدت هذه الحكومات ذريعة قوية لعدم إجراء إصلاحات ديمقراطية قائلة لشعوبها، انظروا إلى ما يجري في العراق، وإلى نتائج الاحتلال الأميركي، إذ الدماء والفوضى والحرب الأهلية، لا ديمقراطية هناك ولا يحزنون، فهل تريدون هذه «الفوضى المدمرة» التي تشيعها أميركا!
وهذا هو الدور المخرب باسم «الفوضى الخلاقة» الذي مارسته السياسة الأميركية على مدى السنوات الماضية، لتعطيل الإصلاحات الديمقراطية ولإجهاض القوى الوطنية ولتقديم الحجج الجاهزة لنظم الحكم المستبدة، لكي تستمر في ممارسة استبدادها وربما بقمع أشد فإن كنا نلوم نظمنا فإننا نلوم أيضا أميركا، التي راهن عليها المتأمركون العرب، فإذا بالكل باطل وقبض ريح.
ولعلنا نستطيع أن نجري مقارنة سريعة، بين موقف إدارة بوش المعلن منذ العام 2002-2003 تحت شعار هجوم الإصلاح الديمقراطي على العالم العربي الإسلامي ومدى تشدده وخصوصا على لسان وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس رغبة في فرض الديمقراطية على نظم الحكم في بلادنا، وبين موقف إدارة بوش ووزيرة خارجيته الآن... الفرق واسع والبون شاسع، فقد تبدلت المواقف وتغيرت الأهداف واختلفت السياسات نتيجة الفشل الأميركي في العراق.
مثلما كانت تفعل الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية قديما، عادت الإمبراطورية الأميركية هذه الأيام إلى المسار ذاته والمنهج والأسلوب نفسه، إذ غلبت حماية مصالحها الحيوية في المنطقة «النفط و (إسرائيل) والسوق التجارية والمواقع الاستراتيجية»، بواسطة القوة العسكرية وفرض الأمن والاستقرار، وبدعم نظم حكم محلية متحالفة حتى لو كانت استبدادية على كل دعاوى الإصلاح السياسي والهجوم الديمقراطي والترويج الديمقراطي بين هذه الشعوب.
يقول أستاذ شئون الشرق الأوسط في جامعة جورج تاون بواشنطن ستيفن هايدمان: «إنه طبقا لجدول الأعمال الأميركي المطروح حاليا، فإن نشر الديمقراطية والترويج لها بين العرب يحتل مكانا أقل أهمية في السياسة الخارجية الأميركية، عما كان عليه الحال قبل سنوات... لقد حدث تغير في هذه السياسة، ما يعد واحدا من أشد الانتكاسات الدرامية في تاريخها، بعد أن بلغ الضغط الأميركي على حكومات المنطقة لإجراء إصلاح ديمقراطي، ذروته في العام 2004 لكن التراجع سرعان ما بدأ، وهو تراجع سيستمر في الأمد القريب».
قبل سنوات قليلة شنت كوندوليزا رايس هجوما شرسا ضد نظم الحكم العربية، واتهمتها بالفساد والاستبداد، وطالبت الحكومة المصرية في حديثها بالجامعة الأميركية بالقاهرة بضرورة الإسراع بالإصلاح الديمقراطي ما اعتبرته الحكومة المصرية موقفا عنيفا واستبشر به المتأمركون العرب، واستعد بعضهم لتولي المناصب وجني المكاسب.
قبل أيام كانت كوندوليزا نفسها في مصر، للمرة الثالثة خلال ثلاثة أشهر ولم يأتِ على لسانها ذكر للديمقراطية والإصلاح إلا همسا، كانت تبحث عن ترتيبات الأمن وحشد الصفوف وجمع الحلفاء والبحث عن حماية مصالحها، بينما كانت مصر كلها غالبية ومعارضة مشغولة بنقاش ساخن عن تعديلات دستورية، ترى فيها فئات مصرية كثيرة على عكس الحزب الحاكم، انتقاصا من الحريات وخصوصا المادة 179 من الدستور في صيغتها الجديدة!
هكذا نحن إذا أمام فشل ذريع لنزهة الحرب وفشل مضاعف لنزوة الديمقراطية وكما يقوم جمهورنا: الحق على الطليان!
خير الكلام:
يقول المتنبي:
فلا ترج الخير عند امرئ
مرت يد النخاس في رأسه
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1664 - الثلثاء 27 مارس 2007م الموافق 08 ربيع الاول 1428هـ