عجيب أمر الديمقراطية العربية أو بالأحرى بعض أشكال ممارساتها في بعض بلداننا. يبدو أنها حمالة أوجه إلى درجة أنها تستخدم ضد جذور فلسفتها من دون إنذار سابق، كما تغير الحية جلدها، ففي الوقت الذي تُدرس أشعار الشاعر البحريني قاسم حداد في مدارس البحرين، تقوم الدنيا في مجلس منتخب هو البرلمان على مسرحية «مجنون ليلى» التي هي من أشعاره. اعتبرها البعض خارجة عن «القيم» التي يريدونها، وكأن الشاعر أو الفنان المبدع يجب أن تكون لديه مسطرة ما من أجل أن يقيس بها ما يكتب ويبدع لإرضاء البعض!
الضجة القائمة في البحرين ضجة لا تعني أهلها فقط، بل تعني كل مهتم بكلا الجانبين، التطور الديمقراطي من جانب وتعاطي الثقافة من جانب آخر. ومن نافلة القول إن الصحيح هو أن تقود الثقافة الديمقراطية وتتيح الديمقراطيات حريات أكبر للإبداع الثقافي، فالحد الأدنى للديمقراطية هو عمارة البلاد إلا أن ما يحدث في البحرين - على سبيل المثال - هذه الأيام هو أمر يخيف المبدعين، ويرعب المطالبين بالحريات والديمقراطية في آن واحد، هو عمل يقمع الإبداع على عكس ما يتوقع العقلاء من الديمقراطية.
«ربيع الثقافة» في البحرين هو برنامج ثقافي من أفضل برامج الثقافة العربية، متنوع وغني وله رسالة في رفع الذوق العام وتنشيط الحياة الثقافية، وأصبح قبلة لمن يريد أن يستمتع بفن حديث تجتمع فيه الموسيقى بالشعر بالمسرح وبقية الفنون ليضفي على ربيع البحرين المعتدل اعتدالا في التعاطي الثقافي متحضرا ورفيع المستوى كما انه برنامج معتمد في غالبية نشاطاته على تمويل ذاتي.
حضرت شخصيا فرقة كراكلا اللبنانية قبل أسبوعين، وكان الجمهور الذي شاهد العرض ليلتها يقرب في العدد من الألفي شخص رجالا ونساء، شبابا وكبارا من كل الجنسيات في موقع تراثي تاريخي جميل. شاهد الجمهور واستمتع في إطار من الاحترام الكامل، ولما خرجت من اللقاء الثقافي الدافئ شاهدت كثيرين أتوا البحرين من المناطق الخليجية القريبة للاستمتاع بهذه الفنون الجميلة. وبعد أيام ثارت الضجة على برنامج آخر عرض في الموسم الجميل نفسه، وكأن البحرين لم تطرب لأشعار بن لعبون، ذلك المبدع السابق لعصره، قبل أكثر من قرن، أو موسيقى محمد بن فارس، أو لم تقرأ كتابات عبدالله الزايد قبل أكثر من نصف قرن. كلمات قاسم حداد أصبحت «منكرا».
في البحرين قضايا سياسية ملحة كان حريا بأعضاء البرلمان الذي انتخبه الشعب أن يلتفت إليها ويقدمها أولوية قصوى في عمله النيابي، على رأسها الحفاظ على انسجام النسيج الاجتماعي ثم هناك القضايا الاقتصادية، وهناك إتاحة فرص العمل، وهناك برامج التعليم وهناك التنمية بأشكالها المختلفة، ويمكن أن ترصد خمسين قضية على الأقل ملحة ولها أولوية لدى الناس قبل الوصول إلى (الحفاظ على الأخلاق العامة) التي ادعى البعض انه يريد صيانتها، وكأن ما حدث في عرض ثقافي مميز هو «خرق فاضح» لأخلاق المجتمع. إنها البحث عن الشعبوية ربما، ونسي البعض أو ربما لم يسمعوا عن قول ونستون تشرشل لشعبه: «ليس لدي إلا الدم والدموع»، في إشارة إلى قول الحق للعامة لا تزلفهم وإثارة مكامن العواطف الجياشة لديهم، بادعاء خرق الثابت من الأخلاق.
بعض الذين يقدمون أنفسهم للعمل الديمقراطي في بلادنا يسرهم أن يسايروا العامة في اختلاق قضايا بعيدة عن أية قضية حقيقية للتنمية كي يركبوا موجة الدفاع عن «قيم المجتمع» وكأن هذا المجتمع لا سمح الله «بلا أخلاق» أو أن الشعب قد انتخبهم فقط للحفاظ على «الأخلاق الحميدة» من وجهة نظرهم، لا للحصول على خدمات أفضل وبرامج تعليم حديثة، وفرص عمل منتجة ومتابعة الفسادين الإداري والمالي، إلى آخر ما يجب أن يقوم به أعضاء المجالس المنتخبة في مجتمعاتنا من أعمال تعود على المجتمع بفائدة.
حقيقة الأمر أن تلك الضجة التي أدت بوسائل الإعلام العربية والعالمية إلى متابعتها تفرض السؤال الرئيسي وهو: هل شعوبنا غير قادرة على استخدام آليات الديمقراطية لتقدمها؟ وهل هذه الآليات كما يحدث في مناطق أخرى، هي في النهاية تستخدم بكفاءة لعرقلة خطوات المجتمع في مسيرة التنمية الحقيقية؟ وهل يعرف هؤلاء أن «الأخلاق» نسبية ومتغيرة مع الزمن وشخصية أيضا؟ بدليل انه في زمن ليس ببعيد كان من «غير اللائق أخلاقا» أن تخرج المرأة للعمل حتى يسمع صوتها خارج منزلها، وليس من الأخلاق الحميدة أن ينقد الرعية الراعي، وليس من المشروع أن يخالف الابن المتعلم الأب الجاهل! وليس من الأعراف أن تقود المرأة الرجل! فالأخلاق عملية صيرورة اجتماعية متغيرة، يبصرها العاقل إن أراد بوضوح من دون أن يفرض نوعا متجمدا منها على الآخرين، ففي الزمن الاجتماعي هناك تغير حتمي في القيم والأعراف، وفرض قيم ثابتة هو أولا تعطيل لدور المواطن السياسي مواطنا ناقدا واختزاله في «ديمقراطية الأغنام والتبع». كما أن الانتساب في السياسة هو انتساب إلى الدائرة المدنية التي تقدس الاختلاف، وليس الدائرة القيمية التي تعشق الانصهار تمهيدا لقيادة الجمهور إلى «الصالح» ربما قليلا وكثيرا إلى الطالح. فوحدة الوطن ليست وحدة «الطاعة»، بل وحدة الاختلاف.
المراد من الضجة كما يبدو قتل المشروع الثقافي الذي أصبح يسهل لقطاعات كبيرة من الناس أن تعي ما حولها وتسأل عما يجري، وتقضي وقتا ترفيهيا مسالما وتسلية إيجابية. ومن الملاحظ أن تكون القيادة السياسية في البحرين أكثر قدرة على تقديم مشروع حضاري حديث مساير لتطلعات المجتمع ممن أراد أن ينصب نفسه خطأ كونه المرجعية الوحيدة للناس. لقد اختار النواب المتشددون مجالا لا يوافقهم الكثيرون عليه وقرأوا تطلعات المجتمع بعكس ما ترجوه وتطالب به، فشكلوا تلك اللجنة التي إن هي سارت في طريق حجر الحريات على الآخرين، فهي تخالف في الصميم ما يفترض أن تدافع عنه، وإن حجرت على الآخرين شيئا ما في القول، فلن تجد من يدافع عنها عندما يقع الحجر عليها!
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1663 - الإثنين 26 مارس 2007م الموافق 07 ربيع الاول 1428هـ