وأخيرا... أُعلِنَ فوز ولد شيخ عبدالله في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في موريتانيا، الواقعة على طرف الأطلسي. وبهذا تسجّل موريتانيا أول معجزةٍ بإيفاء العسكر وعدهم بالتنازل عن السلطة، في ظاهرةٍ عربيةٍ نادرةٍ جدا، لم يفعلها غير سوار الذهب في السودان، في حين بشّر بها الرئيس اليمني شعبه العام الماضي... ولكنه تراجع عنها بعد يومين من التصريحات المجلجلة!
موريتانيا التي خضعت إلى الاستعمار الفرنسي مطلع القرن العشرين، ونالت استقلالها في العام 1960، ظلت عرضة للاضطرابات المحلية والإقليمية لعقود، من بينها انقلاب رئيس الأركان العقيد معاوية ولد الطايع في العام 1984. ولأن الرجل كان يشعر في أعماقه بأن حكمه لم يولد ولادة طبيعية، فإنه حاول أن يبحث عن «الشرعية الضائعة»، فأجرى انتخابات في العام 1992، وأعادها في العام 1997 ليفوز طبعا مرة أخرى، ولكن يحسب له أنه لم يتلاعب كثيرا بالأرقام، وإنما اكتفى بنسبة متواضعة (60 في المئة فقط)!
خلال حكمه، انفرد ولد الطايع بالساحة، معتمدا على دعم الجيش وشيوخ القبائل، ولكن حكمه تعرّض للكثير من الهزات، أو «الانقلابات» كما كان يروّج إعلامه؛ لتبرير قمع المعارضة التي كان بعض أطرافها يراهن على إحداث التغيير، بينما أغلق البعض الآخر مقاره لعجزه عن توفير الإيجار. وفي صيف العام 2005، قام مدير الأمن الوطني ولد محمد فال بانقلابٍ ضده أثناء سفره إلى الرياض؛ لحضور جنازة العاهل السعودي الراحل، ولم يدر بخلده أنه سيتحوّل في طرفة عينٍ من رئيس إلى لاجئ. والموريتانيون اعتبروا الانتخابات الأخيرة تاريخية، لأنهم اعتادوا على قفز أحد «العقداء» إلى الحكم، وبعد فترةٍ يقوم بترتيب «إجراءات فوزه» في انتخابات مفضوحة!
موريتانيا، التي يبلغ سكانها 3 ملايين، ومساحتها مليون كيلومتر مربع، تعتمد على استخراج الذهب والحديد، بالإضافة إلى تعليب الأسماك لامتلاكها واحدا من أغنى المصائد في العالم. كما أن هناك مؤشراتٍ إيجابية لدخولها عالم اكتشاف النفط.
ربما كان يلفت نظرنا الاسم الرسمي الذي تحمله هذه الدولة شبه الصحراوية: «الجمهورية الإسلامية الموريتانية» قبل عصر «الصحوة»، ولكن يزول العجب عندما نعرف أن التسمية وُضِعَت أيام الاستعمار الفرنسي، على خلفية وجود إشكالية العبيد (الزنوج)، والمعروف أن موريتانيا ظلّت من نهاية الدول الإفريقية التي تشرّع فيها قضية العبيد حتى وقت متأخر، كأن الإسلام هو من شرّع العبودية. وللقضية «تفسير» جغرافي أيضا، فالبلد يقع على حافة التماس بين العرب في الشمال (الذين يسمون بالبيضان)، والأفارقة في الجنوب، وهي مشكلةٌ مازالت موجودة في المجتمع حتى اليوم، مع أن السياسة الرسمية دأبت على إنكار وجودها.
القارئ للواقع الموريتاني، سيهوله الكم الكبير من الأحزاب والتيارات السياسية، بما يشير إلى حراك سياسي نشط، تفتقر إليه الكثير من الدول العربية الكبيرة حجما وسكانا، ففي السياسة والاجتماع، تكون العبرة للنشاط والفاعلية وليس المدن المكتظة بالبشر وأرتال السيارات.
هذا الكمّ من الأحزاب، ربما يصيب المتتبع بالدوار، وخصوصا حين يرى نسخا من التيارات المألوفة لدينا في المشرق، من إسلاميين وبعثيين وليبراليين... وانتهاء بالـ «حراطين» (وهي الحركة التي ناضلت من أجل مساواة الزنوج بالبيضان). وقد برز الإسلاميون من بين أهم القوى المناهضة لولد الطايع، واتجاهه إلى التطبيع مع «إسرائيل»، ونقلوا المواجهة إلى ساحات المساجد والجامعات، وكانت الاحتجاجات ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان، مؤشرا على إمكان اكتساح الإسلاميين الانتخابات النيابية والبلدية.
من حق موريتانيا أن تفخر بنزاهة انتخاباتها ومشاركة جميع أحزابها بما فيها «الحراطين»، بينما ظلت دولٌ عربيةٌ كبرى تحارب تياراتٍ رئيسية منذ ثمانين عاما، وتجري تغييرات غير شعبية على الدستور وتعرضه على استفتاء لا يشارك فيه غير 2 في المئة من السكان!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1663 - الإثنين 26 مارس 2007م الموافق 07 ربيع الاول 1428هـ