بدأت الدول الأوروبية بالاحتفال في الأسبوع الجاري بالذكرى 50 لتأسيس الاتحاد الأوروبي. نصف قرن مضى على فكرة الاتحاد ولاتزال الفكرة تواصل صعودها وتقدمها خطوة خطوة. والآن تحول الاتحاد إلى حقيقة عملية وقوة دولية ولكنه أيضا يعاني من ثغرات ناتجة عن النمو الاقتصادي المتفاوت بين دولة وأخرى، وكذلك بسبب اختلاف التوجهات السياسية بين طرف وآخر. فأوروبا واحدة في المعنى السياسي الجغرافي والديني ولكنها ليست كذلك في الجوانب الحضارية والثقافية واللغوية والمذهبية. وهذا التفاوت بين الوعاء الجغرافي السياسي والتكوين الحضاري - الثقافي والبنى الاقتصادية عطل نسبيا إمكانات التقدم نحو الاندماج.
القارة تعاني في هذه الظروف سلسلة تحولات تضع دول الاتحاد أمام خيارات قاسية، أما استكمال عناصر التوحيد وصولا إلى تجاوز «الدولة القومية» أو ضبطها ضمن إطار الدولة القارية (ما فوق القومية) وأما الإبقاء على الصيغة الراهنة التي تكتفي بالحد الأدنى أو الأعلى من التنسيق والمحافظة على «الدولة القومية» وتأخير عملية الذوبان في سياق قاري أوسع.
أوروبا إذا وصلت بعد 50 سنة من التقدم إلى طرح سؤال مصيري يتصل بالهوية القومية التي تأسست عليها دول القارة تاريخيا. وبسبب هذا الازدواج في الرؤية ترددت بعض الدول في الموافقة على الفصول المتعلقة بقوانين العمل والضمانات الاجتماعية، كذلك ترددت بعض الدول في فتح أسواقها أمام حركة انتقال البشر والبضاعة والرساميل، وكذلك ترددت بعض الدول في التخلي عن نقدها الوطني وتذويبه بالعملة الموحدة (اليورو). وكل هذه الموانع شكلت مجتمعة ذاك الخوف من الانتقال من طور «القومية» إلى طور أعلى يصل إلى تبني فكرة «القومية الاتحادية» أو القومية القارية.
هذا الخوف السياسي من الانتقال التاريخي من محطة دنيا إلى مرحلة أرقى ساهم في إفشال الاتفاق (التصويت) على دستور أوروبي موحد ينقل القارة من الدولة القومية إلى الدولة الاتحادية. وبدوره أدى الفشل في التصويت على دستور مشترك إلى تأخير مشروع الجيش الأوروبي الموحد، وكذلك عطل صلاحيات البرلمان الأوروبي وما يعنيه من قاعدة دستورية للتشريع وإعادة تشكيل نظرية سياسية للدولة الجديدة تتناسب مع طبيعة التقدم الذي أحرزته القارة على مختلف المستويات.
هناك ثغرات كثيرة يعاني منها الاتحاد الأوروبي أهمها تلك الازدواجية في الانتماء وتحديد الشكل النهائي للهوية والأولوية في الانتساب. فهل البريطاني أو الفرنسي أو الألماني أو الإسباني أو الإيطالي يغلب هويته القومية الموروثة على هويته الأوروبية أم يزاوج بينهما أم يتخلى عن هويته القديمة لمصلحة الجديدة أم يتمسك بالقديمة على حساب الجديدة؟
هذه الازدواجية في الانتماء تشكل في هذه المرحلة نقطة مركزية في تطور صيغة الاتحاد ونقلها من دائرة التنسيق إلى دائرة الاندماج والتوحيد. ويرجح أن تستمر هذه المشكلة فترة طويلة وخصوصا بعد أن اتسع النطاق الجغرافي للاتحاد وأدخلت إلى عضويته مجموعات أوروبية تنتمي في ثقافتها وتكوينها التاريخي إلى شرق القارة.
فقه المصلحة
صعوبات كثيرة تواجه الاتحاد الأوروبي وكلها تحتاج إلى وقت لتجاوز عقباتها وتذليلها والسيطرة على انفعالاتها بهدف إعادة توظيفها في المصلحة القارية المشتركة. وهذا الطور المتقدم يحتاج فعلا إلى عقلانية سياسية وابتداع آليات قادرة على نقل القارة من طور التعددية القومية إلى الاتحاد القاري. ولا شك في أن أوروبا سائرة في الاتجاه المذكور خلال العقود الخمسة المقبلة. ويرجح أن الاتحاد سيحتفل بعد 50 سنة مقبلة بالذكرى المئوية لتأسيسه وسيكون حقق مختلف الشروط الموضوعية والذاتية المطلوبة لإعلان الوحدة القارية.
هذا الاحتمال ليس توقعا أو مجرد تحليلات متخيلة، وإنما يستند إلى مجرى وقائع حقق خلاله مشروع الاتحاد خطوات متقدمة إلى الأعلى بسبب تغليب الدول الأوروبية «فقه المصلحة» على الأيديولوجيات المجبولة بالعواطف والانفعالات والعصبيات.
تغليب المصلحة أعطى فرصة لرؤية المستقبل وتطور حاجات البشر واتصالاتهم وتقاربهم وتعاونهم على رغم اختلافاتهم السياسية والحضارية والثقافية والجغرافية واللغوية واللونية والمذهبية. فالقارة منقسمة ومتنوعة ومفككة ولكنها أيضا تحتاج إلى بعضها بعضا لحماية دولها من الانزلاق نحو المزيد من التشرذم. والحاجة تعني الاختراع وما يتطلبه من ابتكار آليات واقعية ترفع المصلحة المشتركة إلى سوية أعلى من التشنجات العصبية الصغيرة التي تنهك الناس وتعطل عليهم حقهم في التقدم والتطور.
تجربة الاتحاد الأوروبي تشكل ذاك النموذج العقلاني (فقه المصلحة) الذي يمكن إعادة قراءة تفصيلاته مجددا في ضوء تجربة جامعة الدول العربية.
فكرة الجامعة العربية سارت في خط تاريخي معاكس على رغم أن تأسيسها بدأ قبل أكثر من عشر سنوات على البدء في مشروع الاتحاد الأوروبي.
انطلق مشروع الجامعة العربية في 22 مارس/ آذار 1945 وتأسست المنظمة على فكرة التجميع الأخوي أو الرابطة الأخوية لا المصلحية. وبسبب هذه النزعة العاطفية التي جاءت ردا على فشل مشروع الاتحاد العربي بعد انهيار السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وإلغاء الخلافة الإسلامية رسميا في مطلع عشرينات القرن الماضي، تشكلت ذهنية سياسية تقوم على فهم مغلوط للوحدة. فالوحدة تتطلب مجموعة شروط تتجاوز فكرة اللجوء السياسي إلى القبيلة وهي تحتاج إلى حد أدنى من العقلانية التي تبتكر آليات تنظيمية لتطوير العلاقات من طور الجوار القبلي إلى طور الاتحاد المصلحي.
تألفت جامعة الدول العربية بداية من سبع دول (مصر، السعودية، العراق، سورية، الأردن، اليمن، ولبنان) ثم أخذت فكرة اللجوء السياسي/ القبلي تتسع فانضمت ليبيا في 1953، والسودان 1956، والمغرب وتونس 1958، والكويت 1961، والجزائر 1962، والبحرين وقطر وعمان والإمارات 1971، وموريتانيا 1972، والصومال 1973، وفلسطين (منظمة التحرير) 1976، وجيبوتي 1977.
يشكل هذا الاختلاف في السياق التطوري بين توسع قاعدة الاتحاد الأوروبي وتوسع قاعدة الجامعة العربية ذاك الافتراق المفهومي بين نظرية الدولة ونظرية الخيمة. فهذا التوسع الأفقي في رؤية الجامعة للتجميع ساهم في تضخيم مفهوم «الأخوة» على حساب المصلحة وما تعنيه من تطوير أدوات الاتصال والتقدم ونقل العلاقات من طور «الجامعة» إلى طور «الاتحاد». والفارق بين مفهوم الجامعة ومشروع الاتحاد يعطي فكرة واضحة عن نجاح أوروبا في تذليل الكثير من العقبات وفشل البلاد العربية في توظيف الكثير من المتشابهات والمتقاربات.
مفهوم الجامعة أقرب إلى سياسة التجميع وهو مفهوم يقارب حياة القبيلة والتجاور الجغرافي بين واحدة وأخرى. مفهوم الاتحاد أقرب إلى سياسة التوحيد وهو مفهوم يقارب فقه المصلحة وتجاوز الحدود الجغرافية للدولة القومية بهدف التوصل إلى صيغة قارية أرقى وأعلى.
هذا الفارق بين جامعة تخاطب قبيلة واتحاد يخاطب دولة أنتج ذهنية سياسية (ثقافة شعبية) مختلفة في تعاملها مع وحدة المصالح ورؤية المستقبل. فالاتحاد يعني بناء علاقات تنظيمية عمودية تتبع أسلوب الهرمية في بنيتها المؤسساتية، بينما الجامعة تعني المحافظة على علاقات قبلية أفقية تتبع أسلوب الجوار الجغرافي (التجاور القبلي) الذي يرجح الأخوة (الرابطة العصبية) على المصلحة.
احتفل الاتحاد الأوروبي في الأسبوع الجاري بذكرى مرور نصف قرن على تأسيسه، واحتفلت جامعة الدول العربية في الأسبوع الماضي بذكرى مرور 61 عاما على تأليفها. وحتى الآن قطعت أوروبا تلك الأشواط التاريخية للتقدم نحو اتخاذ خطوة إعلان الدولة القارية (ما بعد القومية) بينما البلاد العربية لم تنجح في تجاوز مفهوم اللجوء القبلي والتجاور الجغرافي. وهذا الفارق بين الاتحاد والجامعة يعكس تلك الذهنية السياسية التي تكشف عن ثقافة تتجه الأولى نحو الاندماج والتوحيد والثانية تكرس اللجوء والتجميع.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1663 - الإثنين 26 مارس 2007م الموافق 07 ربيع الاول 1428هـ