ألقى رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الأمير تركي الفيصل بن عبدالعزيز كلمة في مؤتمر تغيير الاتصالات وإيصال التغيير: (العلاقات العامة وبناء الصورة الذهنية) الذي نظمته في المنامة أخيرا الجمعية الدولية للعلاقات العامة - فرع الخليج، ولأهمية ما جاء في مضامين الكلمة تعيد «الوسط» نشرها:
وجدت نفسي أقوم بدور يسهم في تعديل الصورة الخطية السلبية التي تطورت عبر الزمن من خلال عملي الدبلوماسي في كل من المملكة المتحدة، وأيرلندا، والولايات المتحدة الأميركية في السنوات الأربع الأخيرة كجزء من الدبلوماسية العامة، التي أصبحت جزءا رئيسا من العمل الدبلوماسي في عالم اليوم، وهي لا تختلف في جوهرها عن العلاقات العامة كثيرا.
وكان التحدي كبيرا لأداء هذا الدور بفعالية في مواجهة الهجمة الإعلامية الشرسة، التي كانت ترمي إلى تشويه كل ما له علاقة بالقيم الحضارية والثقافية العربية الإسلامية، متخذة من الصور النمطية الشائعة في العالم عن العرب والمسلمين، وخصوصا أبناء وبنات هذه المنطقة، ركيزة لها للوصول إلى عقول المتلقين من عامة الناس، ومن ثم تكوين توجه مناهض ومعادٍ لنا أبناء وبنات الخليج في العالم، مستفزا لنا بما تبثه من صفات سلبية متقنة الصنع تغوي عقول غير العارفين، فلقد سعت هذه الهجمة لربطنا تارة بالإرهاب والعدوانية للشعوب الأخرى وتارة أخرى بالتخلف وبانعدام السلوك الحضاري، كما أن «إسرائيل» ومن يتبعها من مأجورين في شتى الدول لم تتوان عن نعتنا بأبغض النعوت ووصمنا بمعاداة السامية من جهة وبالرغبة في محو اليهود عموما من الوجود، وهذا التحدي مطروح الآن أمام مؤتمركم لوضع تصورات لاستراتيجيات واقعية للدبلوماسية العامة لدول الخليج العربية مع العالم، تأخذ في الحسبان الواقع الحقيقي لدولنا، وما تشهده من تغيرات إيجابية في مناخ كثيرة.
ولعل من أهم الأسس التي يجب أن تقوم عليها الاستراتيجية الواقعية التي ترغب في سعيها الحثيث إلى الاستفادة من الدبلوماسية العامة الهادفة إلى تجاوز الصور النمطية المترسخة في أذهان الغربيين أن يركز على إبراز التغيرات الجذرية في المنطقة، وما نتج عنها من تحولات واضحة، أثرت في المفاهيم والقيم والسلوكيات، ومن تغيرات في أداء المؤسسات الثقافية والاجتماعية وتوجهاتها. مما انعكس بشكل واضح على مجتمعات دول الخليج، مع وجود بعض الاختلافات النسبية فيما بينها، واستطاعت تلك التحولات التأثير في مجتمعات المنطقة ونقلها من مجتمعات أحادية، ومتخلفة، ومنغلقة، وساكنة إلى مجتمعات تعددية وحديثة ومنفتحة ومندمجة في النظام العالمي بشقيه الاقتصادي والسياسي، متأثرة بالفعل الثقافي في حدود ما هو مقبول من المتلقين الذين تترسخ في نفوسهم سلوكيات الإسلام وقيمه، ومبادئ العروبة وشيمها وأخلاقها.
أيها الأخوات والإخوة:
قد يختلف معي المتشائمون، فيرون فيما قلته مبالغة، ويذهبون إلى النقيض بالقول إن دول الخليج لم تتغير كثيرا، وإن ما حدث فعليا مجرد تغيير شكلي مظهري تمثله الناطحات الزجاجية، والسيارات الفارهة، والسلوكيات المتشبهة بالغرب، خصوصا عند فئة الشباب، وأنها بالتالي لم تمس الجوهر، إذ لاتزال القيم القبلية والمحافظة والالتزام بالتقاليد البالية هي المسيطر على فعل الإنسان في دولنا، ما يدفع إلى عدم الاعتداد بكل المظاهر الحديثة الموجودة فوق السطح، وإن الصور النمطية السلبية عند الآخرين عن هذه المنطقة لاتزال هي المعبر بصدق عن حقيقة الإنسان في منطقة الخليج.
إن مثل هذه الرؤية التشاؤمية مجانبة للصدق، ومجافية للواقع، وسائرة في ركاب أولئك المروجين لها من ربعنا العرب ومن غيرهم بحقيقة التطورات السريعة في المنطقة، أو من الكارهين لها، المتشبثين بالصورة النمطية السائدة في العالم، غير أنني، وإن كنت متفائلا، ولا أقبل بتلك الرؤية التشاؤمية، إلا أنني أجد الصورة التي عبرت عنها غير مكتملة بعد، ويتطلب كمالها وتجسيدها المزيد من الجهود الإصلاحية في كثير من المجالات لتكون هي الصورة الحقيقية التي نحملها عن أنفسنا، ونقدمها إلى الآخرين ليرونا من خلالها. كل ذلك في إطار لا يتعارض مع ثوابت ديننا الحنيف، وهويتنا العربية، وقيمنا الأخلاقية.
لقد نفذ من متطلبات الإصلاح في كل الدول الخليجية شمل كل الجوانب حتى مؤسسات الحكم، ولكن التحدي الأكبر هو استمرار عجلة الإصلاح لتتكامل العملية الإصلاحية، بما يحقق مصالح الدول والشعوب، ويحصنها أمام كل التحديات والتهديدات القائمة والمنتظرة في المنطقة، ولتكون الصورة التي نرسمها لأنفسنا أمام الآخر صورة متكاملة وحقيقية.
إننا في دول الخليج أمام تحد مزمن آخر يرتبط بصورتنا النمطية المجحفة عند الآخر، وهي صورة حديثة،ترتبك بالنفط، جعلت من إنسان المنطقة مجرد مستهلك يبحث عن المتعة الذاتية أينما حل، لا هم له غير إشباع غرائزه. ونماذج هذه الصورة النمطية تحفل بها كتابات ورسوم كاريكاتورية تنم على جهل بحقيقة المنطقة وتاريخها. والتحدي هنا هو كيف نمحو من أذهان المتلقين في العالم ومن أذهاننا نحن، هذه الصورة، وأن نثبت أن الخليج ليس نفطا فقط، فإذا كان للنفط الدور الرئيس في ما تحدثت عنه من تغيرات، إلا أن هذه المنطقة التي هي جزء مهم من شبه الجزيرة العربية وجدت قبل النفط وستبقى بعده. والمنطقة ليست جغرافيا فقط، بل هي الإنسان الذي احتوته والذي أقام حضارة وثقافة وكان مهدا لرسالة الإسلام العظيمة، التي وصلت أرجاء المعمورة ويدين بها أكثر من مليار مسلم.
إن إثبات هذه الحقيقة يتطلب العمل بفعالية أكثر في جميع المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، وتشجيع أبناء المنطقة على اقتحام هذه الأبواب والرفع من قدراتهم، وفتح السبل كافة أمامهم ليسهموا بفعالية في الفكر العالمي، والإبداع العلمي، والتطور التقني، وازدهار العلم والاقتصاد والحضارة على مستوى العالم، إضافة إلى استضافة شرائح متنوعة من العالم الغربي ليتعرفوا بأنفسهم إلى حقيقة المنطقة وإنسانها.
فهذه هي المجالات التي تعين على إبراز الصورة الحقيقة للشعوب والمجتمعات.
إن منطقة الخليج ستظل مهوى لأطماع المصالح الدولية، واستقرارها مطلب عالمي إضافة إلى أهميته إقليميا ومحليا لدول المنطقة نفسها، والأمر الذي لا جدال فيه هو أن مكانة المنطقة ستبقى لأسباب كثيرة، من بينها ثروتها النفطية، وموقعها الاستراتيجي، وتداخل المصالح والسياسات الدولية فيها وحولها، ومن ثم ستبقى المنطقة تعاني حال القلق الدائم استراتيجيا وأمنيا، وهذه الحقيقة الثابتة ينبغي أن تكون دافعا لدول مجلس التعاون إلى تحقيق التكامل الفعلي، والعمل على بناء المستقبل المشترك الذي يحقق مصالح الدول والشعوب، ويسمح لها بمواجهة ليس فقط التحديات المتعلقة بالصورة النمطية، بل وبمواجهة التحديات الحقيقة، التي تبقى قائمة إلى أن يتوصل أبناء كل دول المنطقة إلى صيغة تعاون، تحقيق مصالح الأطراف الإقليمية والدولية كافة.
وأختم بالقول: إن علينا - نحن بنات وأبناء دول مجلس التعاون - المسئولية الأولى في إصلاح أوضاعنا، وتقديم الصورة الواقعية الممثلة لحقيقتنا، ودحض الافتراءات التي تبنى على أوهام مستمدة من تصورات خيالية سلبية، وأستطيع أن أتحدث عن بلادي فأقول، إن قيادتنا وضعتنا على جادة الطريق من خلال خطط التنمية البناءة وتوفير سبل العيش الرغيد والرشيد، ولعل أهم ما يجب أن نسعى إلى إصلاح هو قضايا حقوق الإنسان عموما، وحقوق المرأة خصوصا. ووضع خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز ولي عهد الأمين الإجراءات كافة التي تؤدي إلى تحقيق ذلك بتطوير التعليم، وتوفير فرص العمل للجميع، وإصلاح القضاء، والحث على تحقيق الدالة، وهي أمور مجتمعة تكفل للإنسان حقوقه، كما أن قيام هيئتين لحقوق الإنسان: إحداهما حكومية، والأخرى أهلية تعملان حاليا بنشاط وجد ملحوظين يدلل على جدية تامة في إعطاء كل ذي حق حقه من دون أدنى لبس، كما صدرت التعليمات للجهات الحكومية لفتح المجال أمام عمل المرأة. التي يفوق عددها من حيث نسبة التعليم الجامعي عدد الذكور، إن كل هذه الأمور كا كانت لتحدث لولا إيجابيات السياسة الحكومية، ولا شك أن دول الخليج العربية الأخرى لا تختلف عن المملكة في هذا الشأن، فقد صدرت فيها جميعها تشريعات إيجابية تسعى إلى تحقيق العدالة للإنسان، وتوفير الرفاهية له.
إن عالم الخليج اليوم يعيش في ظل نهضة اجتماعية واقتصادية وثقافية وتعليمية وسياسية تحكمها أنظمة وتشريعات تجعل بناء الإنسان محورها ومقصدها الأساسي، وإذا كانت الحكومات قد أدت دورها في التأسيس لهذه النهضة، وتسخيرها لخدمة الإنسان فإن المتوقع أن يواكب المجتمع الخليجي المدني هذا الدور فيتفاعل مع إيجابياته ويعمل أفراده مجتمعين على محو الصورة النمطية التي يحملها الآخر عنه، واستبدالها بما يؤكد أن الخليج ليس نفطا فقط ولكنه حضارة وأخلاق وعلم وثقافة. وهنا أعود إلى الدبلوماسية العامة التي يفترض أن تمارسها سفارات دول المنطقة فعليها أن تكون أكثر تفاعلا في بلاد العالم، وأن تتواصل مع عموم الناس، ومع النخبة على قدم المساواة، وأن لا تقبع خلف أسوار السفارات لتقوم بالأعمال الروتينية متناسية إنها الممثل الحقيقي، والمعبر الفاعل عن الواقع المتطور في بلداننا.
وعلى مواطناتنا ومواطنينا، وطلبة وطالبات كانوا، أو رجال وسيدات أعمال كانوا، علينا جميعا أن لا نتقوقع على أنفسنا وأن نخوض جميع المجالات من دون تردد ومن دون أن نتهجم على الآخرين فإذا أردنا أن نسود فعلينا أن نقدم ما يخدم البشرية من منجزات عملية وطبية وثقافية تفرضنا على الآخرين من خلال كفاءتنا في عالم لا يحترم إلا من كان كفؤا ولا يسود إلا من يستحق هذه السيادة.
إقرأ أيضا لـ "الأمير تركي الفيصل "العدد 1662 - الأحد 25 مارس 2007م الموافق 06 ربيع الاول 1428هـ