يمر العراق هذه الأيام بأصعب أيامه وأكثرها حرجا ودقة، فهو إما أن يسعى إلى التخلص من المحتل مهما تكن التضحيات، وإما أن يعمل على تمكينه من خناقه وإلى أجل غير معلوم بحجة البحث عن الأمن والاستقرار.
وأسوأ ما سيواجهه العراقيون في هذه الأزمة اختلاف الولاءات والمصالح، فلكل فريق سياسي مصالحه الخاصة وولاءاته لهذا البلد أو ذاك، فهل يستطيع هؤلاء تغليب مصلحة العراق على مصالحهم الخاصة أم أن تلك المصالح ستكون لها الأولوية في قراراتهم؟
الأكراد أعلنوا مرارا أنهم مع توقيع الاتفاقية، وحذر مسعود البرزاني من عواقب عدم توقيع الاتفاقية مع واشنطن، وأكد أن هذه الاتفاقية هي الخيار الأفضل للعراق، وسارع إلى واشنطن لبحث مصير العراق في حال توقيع الاتفاقية أو رفضها، وأكد أن الاتفاقية لا تمس سيادة العراق! بطبيعة الحال فالأكراد يتمتعون باستقلال ذاتي في شمال العراق ومنذ سنوات طويلة، وهم حريصون على استمرار هذا الوضع، ولن يتم ذلك من دون المباركة الأميركية ومساعدتها، من أجل ذلك فوجود الأميركان - على أي وضع - سيكون في مصلحتهم، ومن أجل ذلك فهم مع توقيع الاتفاقية وفي أسرع وقت!
أما نوري المالكي وحكومته ومعهم المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى فهم محتارون بين ازدواج ولاءاتهم، فالحكومة العراقية نشأت بمساعدة الأميركان، ولولا هذه المساعدة لسقطت، وبالتالي فهناك ولاء واضح للأميركان، لكنها أيضا يفترض أنها تمثل الشيعة في العراق بكل طوائفهم، ولكن بعض الشيعة لا يؤيدون توقيع الاتفاقية بصيغتها التي تعطي الأميركان حق انتهاك السيادة العراقية، البعض الآخر ينظر إلى إيران ويريد تحقيق رؤيتها بشأن هذه الاتفاقية، وهذا «البعض» له حضور قوي في السلطة، ومن هنا فإن هذا المزيج المعقد يضفي تعقيدا آخر على توقيع الاتفاقية.
العرب السنة، وهيئة علمائهم يحرمون توقيع الاتفاقية، وينظرون إليها بحذر شديد - ما عدا الصحوات لظروفهم الخاصة! لكنهم، أيضا، يتوجسون شرّا من إيران ومشاريعها في العراق ويريدون إحداث توازن بين الهيمنة الأميركية والنفوذ الإيراني!
الجانب الأميركي وزعيمه - بوش - يريد تحقيق إنجاز ملموس في العراق بعد كل التضحيات التي بذلوها في العراق، ولاسيما أن بوش في آخر أيامه في البيت الأبيض، ولا يريد أن يخرج منه من دون تحقيق نصر مهما كان نوعه في العراق ولاسيما وكل السهام موجهة إليه بسبب المستوى السيئ الذي وصلت إليه أميركا: سياسيّا واقتصاديّا بسبب سياساته السيئة طيلة مدة حكمه، فتوقيع الاتفاقية التي تكرس الاحتلال الأميركي في العراق قد يضيف إليه وإلى حكومته شيئا من الاحترام عند الأميركان ولهذا فهو يريد تحقيقه، ومن هنا بدأ يضغط ويهدد ويتوعد العراقيين بالويل والثبور إن لم يوقعوا الاتفاقية بسرعة تريحه قبل المغادرة النهائية للبيت الأبيض!
هذه التشكيلة العجيبة هي السبب في إحداث اللغط الشديد بين السياسيين العراقيين الذي استمعنا إلى شيء منه عبر أجهزة الإعلام، والمؤكد أن هناك أشياء أكثر تحدث - وحدثت - في المناقشات والجلسات السرية.
الكل يريد أن يثبت أنه محق في موقفه حتى وإن قال كلاما يصعب تصديقه، ويصادم الواقع وما كتبه في الاتفاقية الأمنية.
مسألة السيادة العراقية هي المرتكز الذي يقوم عليه الجدل، فالأميركان لا يريدون مطلقا أن يكون للحكومة العراقية أي تدخل في كل أعمالهم حتى وإن قتلوا العراقيين بسبب أو من دونه! يريدون استمرار الوضع الحالي حيث كان جنودهم وأفراد شركاتهم يقتلون ويدمرون ويغتصبون ويحرقون من دون أن يخشوا شيئا، فالأرض ومن عليها مباحة لهم، وليس من حق أحد أن يعترض أو حتى يسأل! وحتى السماء فهي لطائراتهم من دون سواها.
الحكومة العراقية تحاول جاهدة أن تجعل لها بعض السيادة - وليس كلها - في هذا الشأن، ومع أن هذا تخاذل واضح إلا أن الأميركان - وحتى كتابة المقال - يرفضون هذا الاقتراح ولا يريدون من أحد أن يقف أمام استبدادهم في العراق!
خروج الأميركان من العراق العام 2011 مطلب جيد إلا أنه - للأسف - ينطوي على شروط قد تجعله غير قابل للتطبيق، فهذا الخروج قد ترفضه الحكومة العراقية بحجة أن الوضع الأمني لا يسمح بخروج القوات الأميركية! والمؤكد أن هذا هو الذي سيكون في ظل الأوضاع الحاضرة في العراق! العراق ليس فيه جيش، والأميركان لن يعملوا على إيجاده لأنه لن يكون في صالحهم، والحكومة ذات الولاءات المختلفة سيكون جيشها - لو وجد - ضعيفا وله ولاءات متنوعة مثل حكومته وهذا سيزيده ضعفا، وهذه المعطيات ستجعل أي حكومة قادمة تطلب استمرار الوضع الأميركي على ما كان عليه.
الاتفاقية - أيضا - ستجعل الأميركان يبقون في قواعدهم العسكرية - وقد يبنون أكثر منها - وهذه القواعد تهدد الدول المجاورة، وإذا كان بعض العراقيين يرى أن هذه القواعد قد تلجم الإيرانيين وتبعد تهديدهم فإنها قد تتجه إلى دول أخرى ولن تستطيع أي حكومة عراقية أن تمنع ذلك لأنها ستكون ضعيفة، وهذا خطر أميركي يجب رفضه.
مقدرات العراق الاقتصادية سيكون للأميركان تأثير عليها، وسيعملون على استغلالها لصالحهم - كما هم الآن - وهذا انتهاك آخر للسيادة العراقية.
الولاءات العراقية المتنوعة ستضعف الموقف العراقي كثيرا، والموقف المرجعي الشيعي في العراق سيضعف موقف الحكومة لأنه ترك أمر هذه الاتفاقية للحكومة الضعيفة.
من مصلحة العراقيين أن يتركوا مصالحهم الخاصة جانبا، وأن يتوحدوا لتحرير بلادهم، وأن يعملوا يدا واحدة على بناء عراقي جديد - كما يقولون - ولاؤه - أولا وأخيرا - للعراق وحده ولمصلحة العراقيين وحدهم
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 2251 - الإثنين 03 نوفمبر 2008م الموافق 04 ذي القعدة 1429هـ