يتوجه اليوم الناخب الأميركي لاختيار رئيس الولايات المتحدة، وستظهر نتيجة الاقتراع غدا... وكل الاستطلاعات ترجح فوز المترشح الديموقراطي باراك أوباما بالمنصب. هذا الاحتمال فتح باب السجال عن تلك التحولات الديموغرافية (اللونية) التي طرأت على البنية السكانية للولايات المتحدة في العقود الأخيرة والتجاذبات التي يمكن أن تولدها حركة الشارع في علاقاتها اليومية مع مؤسسات الدولة.
هناك مهلة زمنية تمتد نحو شهرين بين يوم الانتخاب وموعد التسلم والتسليم. ويفترض أن تتوضح صورة الإدارة الأميركية خلال الفترة الفاصلة باعتبار أن الطاقم المساعد للرئيس يلعب دوره في تشكيل الهيئة السياسية للدولة وتوجهات البيت الأبيض وبرنامجه للسنوات الأربع المقبلة. فالطاقم المؤلف من وزراء ومستشارين يعطي فكرة عن استراتيجية الدولة في الخارج وجدول أعمال الإدارة في الداخل. والهيئة التي سيختارها الرئيس المنتخب للإدارة ستكون هي المكلفة بوضع آليات لتطبيق خطة الرئيس وتصوراته. وعادة تلعب الهيئة الدور القائد في تحديد الأولويات وجدول الأعمال إلا إذا تدخّل الرئيس مباشرة وقدّم اقتراحات تلبي تصوراته وتراتب حاجات المرحلة كما يراها من منظاره الخاص.
غالبية الرؤساء تترك للإدارة مهمة وضع البرامج والتصورات وتكتفي بالإشراف والمتابعة وإعطاء التوجيهات وفق خطط مبرمجة غير قابلة للتعديل. بعض الرؤساء الأقوياء يرفض ترك أمور الدولة للإدارة ويتدخل في تقديم خطة عمل تعكس أولويات اهتماماته. فهناك من يغلّب السياسة الخارجية (الدولية) على الداخلية، وهناك من يغلّب الاهتمامات الداخلية على السياسة الخارجية. وفي الحالين لا يمكن فصل الداخل عن الخارج باعتبار أن الولايات المتحدة تعتبر حتى الآن اللاعب الأول في التأثير على المنظومة الدولية سواء على مستوى الاقتصاد أو السياسة أو التنافس على القيادة.
بهذا المعنى لا يستطيع أوباما (في حال انتُخِبَ اليوم) أن يغرِّد بعيدا خارج السرب (هيئة الإدارة) ولا يستطيع أن يكسر دفعة واحدة مجموعة توازنات تعتمد عليها الدولة لتأمين مصادرها المالية وحماية مصالحها العليا من الانهيار. فالحدود المسموح للرئيس أن يتحرك بموجبها محكومة بهامش نسبي لا يستطيع تجاوزه من دون عودة للكونغرس. والكونغرس لا يمكن أن يكسر المعادلات ويتخطى إطار لعبة الدستور. وبسبب هذه الموانع القانونية لا يستطيع الرئيس الانفراد بالسلطة باعتبار أن قانون اللعبة يتطلب منه التأقلم مع الأمر الواقع وإدارة المصلحة وفق تصورات مشتركة تلبي حاجات المرحلة وتتكيف مع شروطها الموضوعية.
هذا الجانب من الصورة معروف ولا يحتاج إلى شروحات وتفصيلات. الجانب الآخر من الصورة هو المهم وخصوصا إذا انتُخِب أوباما لمنصب الرئاسة. فالجانب الآخر هو الجديد هذه المرة بسبب اللون والجنس والبشرة والأصول الدينية وغيرها من عناصر تُعتبر دخيلة على الصورة النمطية والذهنية الثقافية الأميركية.
السؤال الذي سيُطرح بعد اليوم ليس عن مدى تأقلم الرئيس المنتخب مع شروط اللعبة الديموقراطية وإنما عن مدى استعداد المؤسسات للتكيف مع الاختيار الطارئ. السؤال معكوس لأن جانبه الأول مفهوم ويُعتبر من البديهيات التي لا تحتاج إلى نقاش وتوضيح. المشكلة الآن في الجانب الثاني من السؤال: هل أصبحت مؤسسات الدولة جاهزة نفسيا وثقافيا لتقبل هذا التغيير اللوني (السكاني) في موقع الرئاسة؟ المؤسسات لا تعني الأشخاص بقدر ما تمثل مصالح شركات ومصارف وهيئات وبيئات ولوبيات وأجهزة ضغط غير مرئية. واللون لا يعني بشرة الرئيس بقدر ما يمثل خطوة تاريخية أولى تفتح الباب نحو كسر الاحتكار لمنصب الرئاسة. وكسر الاحتكار يشكل بداية نشوء نواة صلبة يمكن أن تؤسس ثنائية سياسية أهلية تعطل على الرئيس المنتخب السير بهدوء في حقل من الألغام وتمنع عنه حرية الحركة المسموح بها لتنفيذ برنامجه وخططه وجدول أولوياته.
أميركا والديموغرافيا
انتخاب أوباما لا يعني حصريا اختيار لون بشرة وتفضيلها على أخرى بقدر ما يعطي أشارة إلى وجود تحولات بنيوية في التركيبة السكانية للجمهور الانتخابي في الولايات المتحدة. وهذا يعني تاريخيا أن الغالبية البيضاء تحولت بفعل التوالد والهجرات إلى أقلية نسبيه تتحرك وسط مجموع من الأطياف المتنوعة التي بدأ يتألف منها المجتمع الأميركي. واختيار أوباما في حال حصل في تصويت اليوم يؤشر إلى وجود متغيرات أخذت تفرض شروطها النسبية في الانتخابات سواء على مستوى المؤسسات الفيدرالية أو على مستوى الولايات. وهذا الجديد إذا فاز مرة يمكن أن يؤسس قاعدة متينة تشكل بداية لبناء دولة تختلف في المستقبل عن الدولة المتعارف عليها الآن.
المسألة الديموغرافية (السكانية) مهمة لفهم خلفيات ما يجري الآن على الساحة الانتخابية في الولايات المتحدة. فالديموغرافيا تعني الاقتصاد (الإنتاج والاستهلاك) وتعني قوة بشرية (احتياط سوق العمل والخدمة العسكرية) وتعني سياسة (قواعد الأحزاب والنقابات وأمن الشارع) وتعني قوة انتخابية (القدرة التصويتية) وتعني أيضا اختلاف اللون (البشرة، العرق، الجنس، الثقافة، اللغة، العادات والتقاليد والمشاعر، والرؤية والتعامل مع الآخر داخليا وخارجيا).
كل هذه العناصر الديموغرافية المشتركة لعبت دورها في دفع أوباما إلى واجهة الصورة وأعطته قوة للممانعة والصمود والاستمرار في المواجهة السياسية على رغم ما تعرض له من غمزات وهمسات عن أصله وفصله ولونه وجنسه ودينه. فالشاب الأسمر لم يصعد إلى الأعلى اعتمادا على قدراته الذاتية فقط وإنما ارتفع لأسباب مشتركة وغير مرئية ولكنها ستظهر لاحقا لتشكل تلك الصورة الخفية عن عالم الولايات المتحدة التحتي.
طرح أوباما الكثير من الأفكار والشعارات والوعود وطالب جمهوره بعدم المبالغة في تحقيقها أو التوصل إليها في ولايته. فهذه بداية لأن المطلوب الآن وكما ردد مرارا التغيير. مفردة «التغيير» تعني الكثير من الاحتمالات إلا أنها تبدأ أولا من ذاتها: التغيير. والتغيير الذي قصده أوباما إزاحة الحزب الجمهوري عن المؤسسات وإخراج إدارة جورج بوش ومن هم في دائرته من البيت الأبيض. إلا أن التغيير الحقيقي يتجاوز الآن طبيعة الإدارة ليشمل متغيرات ترسل إشارات رمزية عن بدء تغيير من نوع آخر يتصل بالبنية السكانية وحصول تعديلات نسبية على توازن القوة التصويتية التي ترجح هذا الجانب على ذاك.
التغيير في السياق الذي قصده أوباما لا يعني بالضرورة بداية قطع مع الماضي وقفزة انقلابية على الحاضر. فالمترشح الأسمر اعتمد على قواعد اللعبة الديموقراطية (تفويض الحزب والذهاب إلى الجمهور الأميركي) وبالتالي فهو لا يستطيع أن يكسر ويعدل ويخالف التطور المتدرج الذي تتحكم به قوانين المصالح المعطوفة على اختلاف النسيج الاجتماعي لتركيبة الدولة السكانية. فالقطع مع الماضي ليس مطروحا في برنامج أوباما وإنما التغيير المحكوم بالتسوية مع الحاضر وشروطه الواقعية، وهذا ما دفعه إلى تسمية نائبه من «صقور» الحزب الديموقراطي ويرجح أن يعين مجموعة محسوبة على المعسكر نفسه حتى لا تسقط المحاولة في مصيدة الانقسام الأهلي وتجاذباته الشارعية والأحيائية.
التغيير في عهد أوباما (في حال انتُخب رئيسا) مشروط ويرجح أن يخضع لضغوط تمنع عنه إمكانات تعديل التوازن في الأجهزة الخفية والمؤسسات الثابتة. إلا أن مجرد صعود الشاب الأسمر إلى منصب الرئاسة يشكل خطوة فائقة الأهمية للإشارة إلى نوع من التغيير الآخر لم يرد إطلاقا في خطابات أوباما. والتغيير الآخر (تعديل التوازن السكاني) لن يظهر على الشاشة الأميركية في السنوات الأربع المقبلة وإنما يحتمل أن يشكل الآن إطارا يحدد صورة أميركا في المستقبل... وبعد انتهاء فترة أوباما
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2251 - الإثنين 03 نوفمبر 2008م الموافق 04 ذي القعدة 1429هـ