ازدحم مسرح «الشرق الأوسط» بتحركات سياسية ودبلوماسية في اليومين الماضيين. الأمين العام للأمم المتحدة يواصل جولته في المنطقة بعد أن زار بغداد والقاهرة. وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بدأت اتصالات مع اللجنة الرباعية العربية في أسوان تمهيدا لجولة تنوي القيام بها في المنطقة تتصل بالموضوع الفلسطيني وتفرعاته الإقليمية. وسفراء جامعة الدول العربية وصلوا إلى الرياض لترتيب اتصالات اللحظات الأخيرة قبل انعقاد القمة التي اقترب موعدها.
الحادث الأهم في مختلف تلك التحركات السياسية والاتصالات الدبلوماسية كان ذاك الذي وقع على حدود المياه الإقليمية في شط العرب. فالحادث الذي أسفر عن احتجاز إيران 16 جنديا بريطانيا يعتبر الأخطر، وفي ضوء تداعياته ستتقرر الاتجاهات العامة لمسار التعارض القائم بين قيادة طهران ودول الغرب. فالاحتجاز أوصل ملف العلاقات إلى دبلوماسية الهاوية وخط النار.
ما حصل في شط العرب ليس حادثا عاديا في مسار التعارض فهو يشبه إلى حد كبير موضوع خطف الجندي في غزة أو خطف الجنديين في جنوب لبنان، وربما يشكل ذريعة دولية لتوسيع دائرة المواجهة ونقلها من سياقها التفاوضي إلى مكان آخر.
الاحتمالات مفتوحة على مختلف الأصعدة. فالحادث قد يفتح قناة التفاوض ويسرِّع من الاتصالات الدبلوماسية التي وصلت إلى حد التوافق الدولي على إصدار قرار جديد بشأن الملف النووي. كذلك قد يفتح الحادث باب المواجهة على غرار ما حصل في غزة ولبنان بعد خطف الجنود الثلاثة.
حتى الآن تبدو قيادة طهران منتبهة إلى خطورة حادث شط العرب فهي تؤكد على أن الاحتجاز حصل ضمن حدود المياه الإقليمية الإيرانية وبالتالي تتحمل بريطانيا مسئولية اختراق القانون الدولي في اعتبار أن توغل الدورية يعتبر انتهاكا للسيادة. هذا الأمر نفته لندن وهي لاتزال تصر على رواية رسمية مفادها أن القوات الإيرانية انتهكت المياه الإقليمية العراقية واحتجزت الجنود حين كانوا يمارسون مهمة تفتيش البواخر العابرة باتجاه ميناء البصرة.
مسألة المكان مهمة في تحديد الطرف البادئ، وفي حال نجحت طهران في تأكيد روايتها تكون كسبت نقطة لمصلحتها ومنعت واشنطن من استغلال الحادث وتحويله إلى ذريعة سياسية تبرر خطوات مقبلة اتخذت القرار بشأنها منذ فترة يرجح أن تكون بعيدة. أما إذا فشلت طهران في توضيح ملابسات حادث الاحتجاز فمعنى ذلك أنها أعطت الذريعة للقوى الدولية للتحرك في سياق دبلوماسي لن يكون لمصلحة إيران.
«من بدأ؟» مسألة مهمة في القانون الدولي حتى لو كان بعض السياسيين لا يعطي هذا الموضوع اهتمامه الكافي. و «احترام الحدود الدولية» ليست نقطة تفصيلية في علاقات الدول وخصوصا حين يكون الخلاف بين قوة عظمى وقوة صغرى. فهذه النقطة خطيرة وهي تشكل في حالات كثيرة تلك النافذة للعبور.
حتى الآن تبدو طهران منتبهة إلى هذا الموضوع. وربما تكون استفادت من سلبياته في تجربتي العدوان الأميركي - الإسرائيلي على قطاع غزة ولبنان. فآنذاك تذرعت تل أبيب، بدعم وتشجيع وتخطيط من واشنطن، بخطف الجندي والجنديين للهجوم على البلدين وانتهاج سياسة التقويض المبرمج للبنى التحتية في غزة ولبنان من دون اكتراث للأمم المتحدة في اعتبار أن الحرب دفاعية وردة فعل.
هذا السيناريو يمكن أن يكون من الاحتمالات المطروحة في أجندة بوش - بلير بعد أن وصلت المفاوضات بشأن مشروع التخصيب إلى حقل موحل في تعقيداته الدبلوماسية في الأمم المتحدة. وحادث الاحتجاز الذي حصل في شريط مياه ضيق يحمل في طياته الكثير من الملابسات وخصوصا أنه وقع قبل ساعات من بدء دول مجلس الأمن مناقشة إصدار القرار الجديد في موضوع الملف النووي.
توقيت الحادث
التوقيت إذا مسألة مهمة لا تقل خطورة عن مكان الاحتجاز. وحصول الحادث في الوقت الضائع أو القاتل يمكن أن يترك تأثيراته السياسية على الدبلوماسية الدولية. فهو قد يؤدي إلى تراجع الولايات المتحدة وبريطانيا عن ضغوطهما وقبولهما بإعادة النظر في بعض حيثيات القرار والتخفيف من حدة بعض فقراته. وهو أيضا قد يؤدي إلى تأليب دول مجلس الأمن وتجميعها وتشجيعها على الموافقة على قرار متصلب وأكثر شدة من المطروح على طاولة النقاش.
حتى الآن تبدو قيادة طهران منتبهة إلى هذا الموضوع الشائك في تعقيداته السياسية والدبلوماسية. وهي أعطت أكثر من علامة تؤكد على أن حادث الاحتجاز تم في نطاق مياه إيران الإقليمية، بينما تبدو القيادة البريطانية مرتبكة وغير متأكدة من المكان الذي حصل فيه الخطف.
لندن الآن تظهر وكأنها في حال تراجع أو إعادة تهذيب لرواياتها الرسمية. فهي بدت مقتنعة بأن الحادث وقع في نطاق عملها الدولي ضمن المياه العراقية الإقليمية وطالبت طهران بإطلاق سراح المحتجزين فورا. ثم أخذت بعد مرور وقت على الحادث بمراجعة النسخة الأولى وبدأت تتحدث عن كمين ثم عملية استدراج للدورية البحرية.
عملية المراجعة البريطانية للنسخة الأولى من البيان الرسمي تعطي إشارة على أن إيران لم تكن معتدية وأنها قامت بالاحتجاز دفاعا عن حدودها الإقليمية المعترف بسيادتها دوليا. وفي حال أقرت لندن رسميا بالرواية الإيرانية تكون طهران كسبت نقطة دبلوماسية لمصلحتها وأعطت لنفسها مهلة زمنية للتفاوض قانونيا مع بريطانيا للإفراج عنهم بعد انتهاء التحقيق معهم.
حتى الآن لايزال الغموض يلف ملابسات حادث الاحتجاز وفي ضوء نتائجه يمكن تصور بعض السيناريوهات التي يحتمل أن يمر فيها التفاوض على حل المسألة. فالحادث قد يفتح تلك القناة الدبلوماسية ويرمم الجسور المقطوعة بين الطرفين ويمهد الطريق لإعادة بناء علاقات ثقة تجدد النشاط في سياق قراءة جديدة للملف النووي. والحادث أيضا قد يفتح الباب لدخول الأزمة في طور خطير لا يستبعد أن يصل إلى الحرب في نهاية أشواطه.
حتى تكون الاحتمالات أكثر واقعية لابد من إعادة هيكلة الوقائع الميدانية التي أودت إلى حادث الاحتجاز. هناك أربع فرضيات تتصل بالملابسات ويمكن ترجيح واحدة منها على أخرى.
أولا، إيران أرسلت قواتها إلى داخل مياه شط العرب وأقدمت على خطف الجنود للضغط على بريطانيا وحليفها الأميركي لتغيير سلوكهما الدبلوماسي في مجلس الأمن والضغط عليهما لتعديل بعض فقرات القرار الدولي.
ثانيا، بريطانيا أرسلت دوريتها النهرية - البحرية إلى داخل حدود إيران الإقليمية بهدف استفزاز طهران ودفعها نحو اتخاذ قرار الاحتجاز لإظهارها أمام دول مجلس الأمن بأنها الطرف المعتدي والمشاغب ولابد من التوافق على إصدار قرار دولي متشدد ضدها.
ثالثا، الدورية البريطانية دخلت خطأ المياه الإقليمية الإيرانية وأن طهران اعتقدت أن هناك محاولة استفزاز متعمدة أو خطة مجهولة للتجسس والمراقبة فسارعت إلى اعتقال المتسللين لمعرفة الأهداف التي أرادتها لندن من وراء خطوة التضليل.
رابعا، الدورية تعرضت لكمين مدبر في المياه الإيرانية أو عملية استدراج مخطط لها وفق رواية صحيفة «التايمز» البريطانية، وذلك بهدف احتجاز الجنود واستخدامهم ورقة ضغط على لندن وإجبارها على تعديل موقفها بشأن الملف النووي وقرار مجلس الأمن الذي وضعت اللمسات الأخيرة على فقراته مساء أمس.
هذه الفرضيات الأربع تعيد طرح السؤال «من بدأ؟». وفي ضوء توضيح الملابسات يمكن ترجيح احتمال التصعيد أو احتمال التهدئة وإعادة فتح قناة الاتصال الدبلوماسي المباشر.
الفرضية الأولى تعني أن إيران جاهزة للحرب وغير خائفة من الحشود والاستفزازات. والثانية تعني أن حلف أميركا وبريطانيا استكمل استعداداته وبات جاهزا للمواجهة. والثالثة تعني أن الدورية أخطأت في التقدير وهذا يفتح قناة الاتصال، أو أنها ارتكبت الخطأ عن قصد وهذا يفتح الباب على احتمال توريط طهران في خطوة ناقصة قد يكون ثمنها غاليا. والفرضية الرابعة وهي ما بدأت تروجها الصحافة البريطانية وتعني اتهام إيران بتدبير الحادث وممارسة دبلوماسية الخداع بقصد إكراه لندن على اتخاذ خطوات تنازلية تتعلق بالملف النووي والقرار الدولي... وهذا الأمر يدخل الموضوع في دهاليز خطيرة لابد من الانتباه إلى مطباتها وانزلاقاتها.
حتى الآن تبدو طهران متيقظة لمسألة المكان وأهميته في القانون الدولي. وبانتظار أن يتبخر الضباب الذي يحيط بملابسات حادث الاحتجاز لابد من توقع تطورات متسارعة على مسرح «الشرق الأوسط» الذي يلحظ حركة ازدحام دبلوماسية باردة وساخنة لم يشهد مثيلا لها منذ احتلال بغداد في العام 2003.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1661 - السبت 24 مارس 2007م الموافق 05 ربيع الاول 1428هـ