حقق اتفاق مكة معالجات ناجعة لمظاهر الانهيار التي آل إليها الوضع الفلسطيني الداخلي خلال الأشهر الماضية. فقد وصلت علاقة المكايدات المستمرة بين طرفي السلطة (فتح وحماس) حد الاقتتال الداخلي الذي راح ضحيته أكثر من 90 قتيلا. جاء اتفاق مكة ليوقف الاقتتال وليضع أرضية للشراكة السياسية بين الطرفين ويوسعها لتشمل القوى السياسية الأخرى تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية. كما حدد الاتفاق معالم الموقف السياسي الفلسطيني الذي ستتبناه حكومة الوحدة الوطنية حول مسألة التسوية والاعتراف بالقرارات الدولية واحترام الاتفاقات التي أبرمتها السلطة الفلسطينية. وقد كان تشكيل الحكومة الجديدة أهم ما تمخض عنه اتفاق مكة وتتألف من 25 عضوا منهم 12 وزيرا من حماس و6 وزراء من فتح و4 وزراء مستقلين ووزير واحد لكل من الجبهة الديمقراطية، كتلة الطريق الثالث وحزب الشعب.
عشية إعلان تشكيلة حكومة الوحدة الوطنية وفي حلقة حوارية نظمتها جمعية المنتدى، كان العضو المستقل باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مسئول ملف الفلسطينيين في الشتات والاغتراب أسعد عبدالرحمن ينقل إلينا قراءته للوضع الفلسطيني في المستقبل المنظور. قراءة أسعد - وهو العارف ببواطن الحال الفلسطيني- لا تنبئ بما يُطمئن، بل تزيد المراقب للشأن الفلسطيني قلقا على قلق. في استقرائه لما سيئول إليه الوضع الفلسطيني، أوجز المتحدث مسببات القلق في كون الشأن الفلسطيني محكوم خارجيا بالنسقين الدولي والإقليمي مضافا لذلك محكومية النسق الداخلي وظروفه وإشكالاته. ونحسب أن محكومية النسقين الدولي والإقليمي اللذين تحدث عنهما المحاضر قد أخذت فعلا تتأكد - في أعقاب إعلان الحكومة الجديدة - بأسرع مما تصورنا. هاهي الولايات المتحدة ترفض التعاون مع وزراء حماس في حكومة الوحدة الوطنية، وهاهي «إسرائيل» ترفض التعامل مع الحكومة الجديدة وتعلن مقاطعتها. وعلى رأس ما يعنيه ذلك استمرار الحصار الاقتصادي على الشعب الفلسطيني وتجويعه وحرمانه حتى من المساعدات العربية.
رفضََ الإسرائيليون التعامل مع حكومة الوحدة الوطنية وادعوا أنها حكومة تتبنى الإرهاب ولا تعترف بـ«إسرائيل» لذلك يتعين مقاطعتها. وقررت الولايات المتحدة الأميركية مقاطعة وزراء الحكومة ممن ينتمون لحركة حماس، حتى تلبي تلك الحكومة - وفقا للطرح الأميركي - المتطلبات الدولية تجاه «إسرائيل». ليس في جعبة «إسرائيل» ومن ورائها الولايات المتحدة - إذن - سوى الاستمرار في التشدد. الحليفان لم ينظرا نظرة ايجابية لما استجد في موقف حماس من مرونة في جهة قبولها على لسان رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل الالتزام بما جاء في كتاب تكليف الحكومة الذي ينص على احترام الاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية بما يشمله ذلك من الاتفاقات الموقعة مع «إسرائيل» مما قد يشف اعترافا ضمنيا بالوجود الإسرائيلي.
«إسرائيل» ومن ورائها الولايات المتحدة تدركان أن طرفي الاتفاق قد أبديا من المرونة وقدما من التنازلات ما يشكل أكبر خطوة ايجابية ُيقدم عليها الطرفان وحماس على وجه الخصوص. ولو كانت نية «إسرائيل» ومن ورائها الولايات المتحدة إيجاد الأرضيات الملائمة للتوافق وتطوير عملية السلام في المنطقة لأيدتا حكومة الوحدة الوطنية ولعززتا التوجه لتحقيق المزيد من نقاط التلاقي. لكن الواضح أن «إسرائيل» تريد جانبا فلسطينيا ضعيفا خاضعا بالكامل لإرادتها وقرارها وهذا لن يخدم عملية السلام على الإطلاق وربما يصل بحماس للتراجع والعودة لمواقفها المتشددة مقابل هذا التشدد الإسرائيلي.
على المستوى الداخلي وفي أعقاب توقيع اتفاق مكة نحت التصريحات الفلسطينية من الطرفين منحى الطمأنة، فأعلنت حماس التزامها بما تم الاتفاق عليه في مكة. وقال ممثلها في لبنان أسامة حمدان ان الاقتتال الفلسطيني ذهب إلى غير رجعة. وأشار مستشار الرئيس الفلسطيني نبيل عمرو إلى أن هناك اتفاقا على دمج القوة التنفيذية التابعة للداخلية الفلسطينية في الأجهزة الأمنية. وقال صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين: إن حكومة الوحدة الوطنية هي خيار الشعب الفلسطيني ونحن ننظر إلى هذه الحكومة كشأن فلسطيني داخلي. رغم ذلك فأسعد عبدالرحمن يرى أن الوضع الفلسطيني الداخلي لا يُطمئن حتى في ظل حكومة الوحدة الوطنية حيث سيظل هاجس الصراع والمحاصصة ماثلا في كل استحقاق. وتلك هي محكومية النسق الفلسطيني الداخلي التي أسماها أسعد عبدالرحمن «سلطة الرأسين» أي سلطتي فتح وحماس. فتح التي تحوز مؤسسة الرئاسة والأجهزة الأمنية ومفاتيح منظمة التحرير، وفتح المثقلة بمرحلة من الحكم المنفرد وتركة من الفساد المالي والإداري. وحماس المتشددة الرافضة لمسارات التسوية وسياسات التعامل مع الوجود الإسرائيلي، حماس ببرنامجها الديني الطامح لتأسيس دولة إسلامية على الأرض الفلسطينية. في ظل ذلك رأى المتحدث أن الصدام بين المنظمتين(الرأسين) وارد ويعززه كونهما متواجدتين على أرض واحدة وبينهما اختلاف فكري شبه جذري ومدججتين بالسلاح وتحوزان فرقا مقاتلة وتملكان تأثيرا واسعا في الشارع الفلسطيني وتكسبان تأييده ودعمه.
هناك مؤشرات مقلقة أخرى تضاف لما ذهب إليه د. أسعد عبدالرحمن حول الراهن الفلسطيني الداخلي وهي تشكل ضغوطا على رأسي السلطة. من تلك المؤشرات رفض حركتي الجهاد والجبهة الشعبية المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية ولتلك المقاطعة تداعياتها السلبية القادمة على الوضع الفلسطيني. ومنها رؤية بعض الشخصيات الفلسطينية المؤثرة غير المحسوبة على حماس بأن الهدف الأساس غير المعلن لاتفاق مكة هو الاعتراف بشروط اللجنة الرباعية والمضي في عملية التسوية فقط لا غير. ومنها ما يشكله موقف تنظيم القاعدة من ضغط على حماس حيث صرحت القاعدة أن حماس بقبولها احترام الاتفاقات الدولية قد سقطت في مستنقع الاستسلام من جهة وتنازلت عن التحاكم للشريعة من جهة أخرى. أضف لذلك عدم ثبات تصريحات قيادات حماس على موقف واحد فهي تأتي أحيانا متضاربة ربما كردود فعل على ما تتعرض له من ضغوط.
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1660 - الجمعة 23 مارس 2007م الموافق 04 ربيع الاول 1428هـ