واضح جدا أن الهوية ضرورة لا تنفك عن وجود الأشياء، فهي تمثل الأبعاد التي تتبلور من خلالها واقعيتها، ولا يعقل تجردها أو انفكاكها عنها، وكما قيل قديما: «الشيء ما لم يتحدد لا يوجد».
فلكل من الفرد والمجتمع تشخص بلحظات متعددة كالدين، والنسب، والوطن، فهي قوام تحققهما وواقعيتهما ولا مجال لإنكارها أو مصادرتها، ولكن ذلك لا يلغي السؤال من جانب آخر وهو: هل الهوية المحددة هدف للإنسان يسعى إليه ويسهر على حمايته؟ أم إن الهدف هو تطور الإنسان وفاعليته في الحياة بأي هوية استظل، وتحت أي عنوان اندرج فذلك لا يهم مادام يخدم مصلحة الإنسان؟
وبالتالي هل يجب أن يكون الإنسان طوعا للهوية المحددة أم يجب أن تكون الهوية تابعة لحركية الإنسان؟ أو بتعبير آخر: هل هي مخدومة للإنسان أم خادمة له؟ هذه أسئلة ليس من السهل الجواب عنها ولكنها تعكس تحدّيا حقيقيا قوامه ثنائية الهوية والحقيقة، إذ العلاقة بينهما عكسية دوما، فكلما تضخمت الهوية تضاءل مستوى البحث عن الحقيقة، وكلما قوي دافع الحقيقة خف القلق على الهوية المحددة سلفا.
وهنا تبرز الحاجة لدى حراس الهويات إلى تنمية الشعور بالاستغناء عن تجارب الغير، والإدعاء بأن جرابنا يحوي كل شيء، وكل ما يصنعه الآخر خارج هذا الوعاء فهو زيف ومحض افتراء، كما إنه على هذا الأساس يصبح الواقع أحاديّا، بالإضافة إلى الهوية فهي انتماء كانتماء النسب، ولذلك لابد من الحذر جدّا من تأثيرات الخارج إلا في حال الاضطرار. فيجب أن يتقدر بقدره فحسب، مع تعزيز الشعور بعدم الرضا تجاه ذلك اللون الوافد من المساحة الأخرى، وهكذا تصبح قضية الإنسان الأولى ليست هي البحث عن الطرق المناسبة للتكامل والتعاون بين أفراده وفئاته، بل هي معركة الصراع والمغالبة بين الهويات المتخندقة وراء حواجزها المصنوعة، ويكون فيها التلفيق، والتزوير، والفخر الكاذب، أدوات فاعلة للوقوف بقوة في قبال الآخر، ويسوغ حينئذ نسج الأمجاد الزائفة والخادعة في مقام النضال من أجل الذات التي تعلو على غيرها ويتداعى أمامها سواها.
ولذا فلا مانع - على سبيل المثال - أن يكون دخول الغير بقوة السلاح إلى أراضينا احتلالا بغيضا، ولكن الفعل ذاته إذا صدر منا ضد الآخر فسيصبح فتوحات عظيمة! فازدواجية المعايير هي مشكلة البشر منذ القدم وإذا كانت أميركا موسومة بهذه الحربة الآن، فذلك لأنها القوة الأكبر وقد قيل «الظلم بحسب القدرة»، فالإشكالية في الحقيقة لا تخص ثقافة دون أخرى، بل هي مقتضى ذاتية الإنسان، التي هي من القوة بحيث تحرك كل السيرورات الفكرية والأخلاقية تجاهها.
ولذا أمكن الإدعاء بأن الأصل في الأديان - بلحاظ مبدئية الله - هو كونها في سياق تقرير الحقائق والدعوة إليها ولكنها تنتهي - بلحاظ الإنسان - إلى الاستغراق في شكليات الهوية وما تستتبعه من تصلب وعصبية فتتداخل مع الكينونة الثقافية وتحولها إلى سياج دوغمائي منغلق على نفسه. وعلى هذا الأساس تتشكل صورة الذات الناصعة والتي يستحيل التنازل عنها أو القبول بإعادة النظر في صوغها، فمن اللازم في هذا السبيل التلاعب بالحقائق التاريخية لأجل الاحتفاظ بتاريخ نظيف جدا، يرفع الرؤوس عاليا أمام الآخر، ولذا فإن صاحب كتاب «الدين بين التنوير والتزوير» يرفض نقد شخصيات التاريخ الإسلامي الأول، فقد اعترض في الكتاب المشار إليه على حسن حنفي (صاحب كتاب «مقدمة في علم الاستغراب» وصاحب «موسوعة الدين والثورة») الذي انتقد بدوره بعض شخصيات الصدر الأول وناقش بعض ممارساتها, فيقول احتجاجا: إذا أسقطنا رموزنا التاريخية فماذا يبقى لنا في قبال الغرب؟!
فهو يرفض النقد تماما إذا كان يمثل تعريضا بكاريزما الرمز الذي هو بوابة الهوية وعنوانها، وفي هذا السياق نلاحظ أن الزعيم السياسي يرفض النقد بحجة الحفاظ على هيبة النظام، والزعيم الديني يرفض النقد أيضا ولكن بحجة الحفاظ على هوية الدين وصونها من الأخطار، فهناك قانون أمن الدولة وهنا قانون أمن الدعوة ولا نعرف أيهما أشد خطرا من الآخر! وأمام كلا هذين النمطين يصبح المنقاد أكثر قبولا من المنتقد ويكون ميزان القبول هو الطاعة، وليس النصيحة، كما إن من يريد الدخول إلى معبد الهوية فعليه أن يخلع رداء العقل لأنه لا يسمح في ذلك المعبد بسوى الثناء والانقياد، وهما أمران بينهما وبين العقل النقاد منافرة شديدة، وأساسا: ما هي حاجة المتملق إلى العقل؟
وقد تنساق أجيال من العلماء والمفكرين - فضلا عن غيرهم - باتجاه شعار خلاب فتشتغل الأدبيات الشفوية والمكتوبة بتمجيده وإعلاء شأنه أو اعتباره الأمل النهائي في الخلاص، ولكن الذي يحصل هو إنه بمرور الزمن، وتراكم التجارب الفكرية، والعملية يتوصل إلى إن مقتضيات الواقع أكثر عمقا من الشعار الجميل الذي يشبع رغبة أو يؤكد هوية.
وكثيرا ما نسمع شعار أن لا تقدم للمسلمين إلا بالرجوع إلى هويتهم، وهذا شعار يطلقه الكثير لغاية صحيحة ظاهرا ولكن ما هي مدى واقعيته؟ فما هي الهوية التي ينادى بالرجوع إليها؟ إذ إن الإسلام اليوم له تفسيرات كثيرة تتشظى هوياته بعددها، فهل هي السلفية النصوصية، أم الصوفية الباطنية، أم العقلية الاعتزالية؟ وهل هي مدرسة الخلافة،أم مدرسة الإمامة؟ وهنا قد يقول أحد: لماذا لا نستند إلى الثوابت المتفق عليها بين المسلمين جميعا، والتي لا مجال لإنكارها أو التشكيك في وجودها من حيث إنها المكون الأصلي والنواة الأولى للإسلام الذي هو هوية المسلمين جميعا؟
ولكن يمكن لآخر أن يجيب بأن الذي يشكل خريطة الحياة وتنعكس تنظيراته على نظم الدولة والمجتمع، ليس خصوص ما يصطلح عليه (الثوابت) بل هو مجموع المكون الثقافي بكل عناصره الشاملة للمتفق عليه والمختلف فيه والثابت منه والمتحول، فيكون لا مناص عن العودة إلى إشكالية التشظي من جديد.
ولذا يمكن مقاربة الإشكالية في تفسير الهوية المرجع بما يصطلح عليه (التاريخ الإسلامي) فمع إن التاريخ كتب تحت ظل التأثيرات السياسية والمذهبية والأهواء الشخصانية فهو كذلك ليس حال بسيطة ذات لون واحد، بل هو صورة مركبة مشتملة على ألوان متنافرة ومتقاطعة، وكذلك هو حالة تراكمية سيّالة تبدأ من الزمن السحيق وتتصل باللحظة الحاضرة، ويستحيل اقتطاع جزء محدد منها ومن ثم الإشارة إليه على إنه المقصود بالهوية المنشودة.
وهذا كله قد يصل بنا إلى ضرورة إعادة النظر في دوافع التمترس وراء الهويات المحددة - على حساب طراوة الحقيقة وسياليتها - والذي لن يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى المزيد من التحديات الاعتباطية وأنماط الكراهية العبثية.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1659 - الخميس 22 مارس 2007م الموافق 03 ربيع الاول 1428هـ