ما نعرفه عن مجنون ليلى هو انه لم يكن مجنونا فعلا، وإنما كان عاشقا كبيرا. فقيس بن المُلَوّح بن مزاحم العامري، من أشهر الشعراء العذريين، عاش في صدر الدولة الأموية، وأحب ليلى بنت سعد التي تربى ونشأ معها في أرض بني عامر إلى أن كبرت، فحال بينهما أبوها، فاشتد الحنين والشوق إليها، فهام على وجهه في صحاري نجد حتى أنس بالوحوش. وفي تنقلاته بين بوادي الشام والحجاز، كان يخاطب طيفها ويذيب قلبه كالشمعة على وهج ذكراها، وينشد أشعارا رقيقة في ذكر الحبيبة البعيدة المقصاة.
وبعد تجوالٍ طويلٍ وعذابٍ ومعاناة، تختتم المأساة بمنظرٍ مفجعٍ حفظته لنا كتب التراث العربي، إذ عُثر عليه ميتا بين أحجار، فحملوه إلى أهله الذين غسلوا أيديهم من شفائه... وهل للعشق من شفاء؟
الشاعر أحمد شوقي ألّف مسرحية تناول فيه قصة المجنون، وأدار أحداثها في بادية نجد، وجعل عقدة المسرحية لقاء قيس بليلى بعدما تزوّجت، فيشكو لها لواعجه، ويعرض عليها الهروب، ولكنها رفضت وفاء لزوجها الطيّب ورد الثقفي الذي سمح لهما باللقاء، فرحل قيس حزينا منكسرا... مضطربا كالمجنون.
ونحن لا ندري مدى «تاريخية» هذه الواقعة (اقتراح الهرب)، فربما تكون مجرد خيال شاعر، فالشعراء في كل وادٍ يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون، وكثيرٌ منهم كثيرا ما يتبجّحون! كما ان شوقي يذهب إلى أن ليلى بعد سماع خبر جنون قيس، تمرض حزنا وتموت، فيصل الخبر إليه، فيظل يبكي على قبرها حتى يسلم الروح.
ورغم روعة ألفاظ شوقي وجمال ديباجته وطلاوة شعره، إلاّ أن وقائع مسرحيته تظل من الناحية التاريخية موضع تأمل. الأمر نفسه ينطبق على العرض الأخير لمسرحية المجنون للشاعر البحريني المعروف قاسم حدّاد، بعد نشر مجموعةٍ من اللقطات «المثيرة للجدل». فمعرفتنا التاريخية بشخصية قيس تختلف عمّا قُدّم، فهو واحدٌ من مجموعةٍ من الشعراء العرب المتيّمين الذين عُرفوا بـ «الشعراء العذريين»، ولكلٍّ منهم قصة عاطفية إنسانية رقيقة تذيب القلوب.
اللقطات اعتبرها البعض «مخلّة بالآداب»، واعتبرها آخرون «فنا راقيا» و«إبداعا»، ويجب التنبه إلى أنه لم يتعرّض أحدٌ إلى النص المسرحي لحدّاد، مع انه ليس «نصا مقدسا»، ويمكن لمن يمتلك أدوات النقد أن يتطرّق إليه بالنقد، شكلا أو مضمونا أو بناء مسرحيا، ولن نقبل بأن يضعه أحدٌ من «الحداثويين» أو «الليبراليين» المتعصبين فوق النقد. عموما ليس هنا موضع الشاهد بل اللقطات التي لا يقبلها الذوق السليم ويرفضها العربي بسليقته، ما لم يكابر بعض «الحداثويين المتشدّدين».
شوقي عندما جمع قيس بليلى، سألته عن دموعه فقال انها دموع الفرح بلقياها، وسألها عن هزالها فأجابت: ما أجمل أن يكون الهزال بسببك! أما في «ربيع الثقافة»، فنحن أمام صور رجلٍ شبقٍ مستهترٍ في حركاته المخجلة معها، وصوّر ليلى امرأة لعوبا تنام مستلقية في حضنه دون خجلٍ أو حياء، في حركاتٍ «تمثيلية» أبعد ما تكون عن أجواء وأخلاق وشخصيات الشعراء العذريين.
وللأمانة... إنها قضيةٌ تتجاوز «حرية التعبير» إلى «تزوير التاريخ»، وما كان لي أن أتكلّم لولا هذا الاستهتار بشخصية قيس التاريخية، فأنا عاشقٌ قديمٌ ومتعاطفٌ جدا مع قيس وليلى في محنتهما، وكثيرا ما استشعر قلبي الحزن لفراقهما عندما كنت أقرأ أشعاره الرقيقة. فلا يأتي أحدٌ ليقدّمه للجمهور اليوم في صورةٍ ماجنةٍ... ومهما اختُلِف في قيس، إلاّ أن من المؤكد أنه لم يكن «حداثيا» على الإطلاق!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1659 - الخميس 22 مارس 2007م الموافق 03 ربيع الاول 1428هـ