العدد 1659 - الخميس 22 مارس 2007م الموافق 03 ربيع الاول 1428هـ

النخبة العربية وتجربة تأسيس الجمعيات السياسية

بلاد الشام وعصر الطوائف (13)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

شكل الاستعمار المباشر للديار العربية والإسلامية صدمة سياسية للنخبة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع. وجاءت الصدمة السياسية تستكمل تلك الصدمة الثقافية التي أحدثت هزة نفسية في حياة تلك النخبة فأخذت تتصارع وتتنافس على تشكيل قناعات إيديولوجية تحث السلطنة والناس على التعلم من الغرب ومحاكاته بحثا عن مخارج معقولة تنقذ الأمة من الانهيار والتفكك.

أدت هذه الأزمة المزدوجة إلى زيادة جرعة التقليد والابتعاد عن القراءة الموضوعية للواقع وإهمال مسألة العمران ودوره في ترسيم حدود المعرفة. وبسبب غياب العلاقة بين العمران والمعرفة من ذهن غالبية النخبة العربية اتجهت تلك الشريحة من المتعلمين إلى الأخذ بمظاهر التقدم والاستعجال في نسخ التجارب الأوروبية من دون وعي تاريخي لأسباب التطور وآلياته وقوانينه.

لم تدرك النخبة العربية آنذاك أن التطور في جوهره الاجتماعي لا يحصل من دون محطات تاريخية. وكل محطة لها ظروفها وخصائصها وبيئاتها الثقافية وما تعنيه من نهوض عمراني ومعرفي. وبسبب هذا النقص في الوعي التاريخي تشكلت أفكار النهضة العربية على أسس إيديولوجية تتحكم فيها نزعة «ارادوية» لا تخلو من ثغرات وفجوات ساهمت لاحقا في انهيارها السريع حين كانت تصطدم بموانع واقعية كما حدث حين تقدمت الجيوش الأوروبية ميدانيا واحتلت الجزائر وتونس ومصر وشواطئ الخليج وعدن.

تقليد الغرب من دون وعي تاريخي لماهية التقدم شكل نقطة ضعف في طموحات النخبة للنهوض بالأمة من جديد. فهي اعتقدت أن محاكاة النماذج الأوروبية تعتبر خطوة كافية للحاق بالغرب. ومثل هذا التوهم حصل في مختلف الميادين ومنها حقل تشكيل الأحزاب والتنظيمات والجمعيات والأندية الثقافية والسياسية.

حتى فكرة الحزب الحديث لم تكتشف النخبة العربية في وعيها القاصر آنذاك أنها نتاج التطور التاريخي الذي مر في محطات ودرجات من التقدم، حيث كانت كل حقبة تمثل موضوعيا خطوة واعية تلبي الحاجة وتلعب وظيفة عملية في لحظة زمنية.

فكرة الحزب الحديث لم تظهر فجأة في أوروبا وإنما تشكلت وتطورت خطوة خطوة حتى وصلت إلى ذاك المستوى المتقدم في تطور العلائق بين العمران والمعرفة.

بدأت الفكرة في لحظة زمنية أخذت فيها العلاقات الرأسمالية الحديثة بالامتداد الجغرافي والاجتماعي محطمة تلك البنى التقليدية الموروثة عن عهد هيمنة شبكات الكنيسة وتنظيماتها الهرمية على المجتمع. فالحزب الحديث لم يظهر بقرار سياسي وإنما تطورت فكرته التنظيمية منتقلة من الروابط التقليدية والأشكال البدائية لتلبية حاجة اجتماعية طارئة والقيام بوظيفة محددة لمواجهتها. بدأت الطليعة الأولى مع بدايات النهوض الرأسمالي فتأسست في بريطانيا وفرنسا تلك الرابطات المهنية والحرفية والفكرية. ومن فكرة الرابطة تشكلت مع الثورة الفرنسية في العام 1789 مفاهيم التنظيمات السياسية. واستندت تلك المفاهيم على مجموعة خطوط وضوابط بدأت في البرلمان (الجمعية العمومية) حين انقسم إلى كتل وجمعيات ومجموعات منظمة. بعد ذلك انتقلت فكرة التنظيم (الحزب) إلى الشارع فتشكلت النقابات والأندية الثقافية والسياسية وصولا إلى ظهور منظمات بسيطة حصرت نشاطها في فئة اجتماعية أو فرقة مهنية أو عمالية تطرح مطالب إصلاحية سياسية واقتصادية.

من خطوات الرابطة ثم الكتلة ثم المنظمة البسيطة أخذت فكرة الحزب تتطور مع حاجات السوق ونمو العمران وظهور مدارس فلسفية أسست اجتهادات معرفية معاصرة. ولم تتوصل فكرة الحزب إلى طورها الحديث، كما تناولته النخبة العربية في أدبياتها وممارساتها، إلا بعد المرور في محطات ومراحل تاريخية ارتسمت معالمها في العام 1850 كما يقول موريس ديفرجيه حين أرخ للمسألة في كتابه عن «الأحزاب السياسية».

ديفرجيه ربط نشوء فكرة الحزب الحديث في العام 1850 مع صدور «البيان الشيوعي» في العام 1848. وهذا الربط لا يعني أن مفهوم التنظيم لم يكن متداولا أو موجودا. فالمفكر بنجامان كوستان حدد في العام 1816 شروط قيام الحزب باجتماع ناس «يعتنقون العقيدة السياسية نفسها». كذلك أشار الفيلسوف ديفيد هيوم إلى أهمية وجود برنامج سياسي يوحّد الناس أو يكتّل «أفرادا متفرقين» على منهاج مشترك.

هناك توصيفات وتعريفات مختلفة لمفهوم الحزب وفلسفته وكلها أجمعت على وجود تطور تاريخي ساهم في نقل الفكرة من إطارها البسيط (رابطة مهنية مثلا) إلى إطار معقد يعتمد منهجية فلسفية متكاملة وخطة عمل تستهدف تحقيق غايات سياسية شمولية. فالفكرة الحديثة بدأت في إطار «ليبرالي»، وسرعان ما تكونت إلى جانبها أطر نقابية حملت معها تلك المفاهيم الاشتراكية وثم الشيوعية التي أسست نزعة مركزية (التنظيم الحديد) كانت وظيفتها ضبط السياسة في سياق توجيهي صارم.

أول مفكر اعتبر أن الحزب هو البديل التنظيمي عن الدولة كان فريديرك أنغلز حين وضع مقدمة لكتاب صديقه كارل ماركس عن «الحرب الأهلية في فرنسا». فأنغلز لاحظ أن «الطبقة العاملة» تفتقد إلى هيئة تصرف أمورها. واعتبر أنه في حال وصلت هذه الطبقة إلى الحكم فإنها لا تستطيع إدارة شئون الناس بواسطة «جهاز الدولة القديم». وخوفا من خسارة الحكم أو الفشل اقترح أنغلز تشكيل جهاز متكامل يقوم بمهمة الدولة في حال نجحت الطبقة العاملة في الإطاحة بالحكم السابق.

فكرة أنغلز لم تأت عن عبث وإنما استنبطها بناء على تجربتين: الأولى حصلت خلال انتفاضة العام 1848 التي ساهمت في نشر الأفكار الاشتراكية في وسط النقابات والمنظمات والتنظيمات السياسية والعمالية في مختلف أنحاء أوروبا. والثانية، كومونة باريس التي انفجرت في العام 1871 لمدة ثلاثة أشهر وانتهت بدورها إلى الفشل.

كانت الفوضى التنظيمة واحدة من الأسباب التي ساهمت في إفشال الكومونة. فالانتفاضة العمالية انقسمت آنذاك بين تيارات اشتراكية ثلاثة: الاتجاه المثالي الذي كان يتمسك بأفكار سان سيمون وشارل فورييه وروبرت أوين. والاتجاه الفوضوي بقيادة لويس بلانكي وكارل باكونين. والاتجاه المنظم الذي استلهم كتابات ماركس وأنغلز.

الاتجاه الأخير (الشيوعي) أيّد الكومونة وانتقدها في الآن مطالبا بإعادة هيكلة فكرة التنظيم الحديث حتى تصبح مناسبة للتطور وحاجات السوق ولتقوم بدورها الوظائفي وهو قيادة الدولة البديلة وتصريف أعمال الناس.

فكرة الحزب الحديث إذا لم تأت من فراغ تاريخي وبناء على تصورات إيديولوجية وإنما هي تأسست وفق محطات ومراحل لتلبية حاجات ووظائف محددة حتى وصلت إلى شكلها الليبرالي أو الاشتراكي بعد تجارب معقدة مرّت فيها أوروبا وصولا إلى انقسامها إلى خطين: الأول يعتمد البرنامج السياسي اللامركزي أساسا للاجتماع التنظيمي، والثاني يعتمد الإيديولوجيا شرطا للوحدة التنظيمية المركزية ذات الغايات الواضحة.

النخبة والحزب

وصلت هذه الفكرة الحديثة بسرعة إلى النخبة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدأت فورا في تقليدها والبناء عليها من دون إدراك منها لأهمية تلك المراحل والمحطات التاريخية التي مرّت بها منظومات الجمعيات السياسية في أوروبا.

يقول ديفرجيه: إن فكرة الحزب الحديث تبلورت بعد العام 1850 في أوروبا. وباستثناء الولايات المتحدة آنذاك لم يعرف أي بلد في العالم الأحزاب السياسية في «المعنى العصري للكلمة». ديفرجيه لا ينفي وجود اختلافات في الآراء ونواد شعبية وتكتلات فكرية وروابط مهنية ونقابات عمالية وتشكيلات تنظيمة وجمعيات سياسية إلا أنه لا يعتبرها تنتمي إلى فكرة الحزب الحديث فهي مجرد تجمعات وليست أحزابا في «المعنى الصحيح».

هذا التقييم فيه جوانب من الصحة في الإطار الأوروبي إلا أن المنطقة العربية كانت سبّاقة في المسألة حين سارعت نخبتها إلى محاكاة الفكرة بدءا من ذاك المفهوم الليبرالي (اللامركزي). ففي فترة قصيرة نسبيا شهدت المنطقة أولى المحاولات لتشكيل نوع من الجمعيات «الثقافية» و «العلمية» و «الأدبية» التي طرحت بعض الأفكار الإصلاحية وقدمت تصورات لتحديث أجهزة السلطنة وتطوير دستورها من دون تحديد آليات عملية لكيفية نقل الاقتراحات من سياق النظرية إلى واقع التطبيق العملي.

في تلك الفترة أعلن عن أول حلقة فكرية في بلاد الشام حين أنشئت «الجمعية العلمية السورية» في بيروت في العام 1847. ضمت الجمعية العرب وغير العرب وشكل المسيحيون غالبية تلك الحلقة الفكرية، منهم كان ناصيف اليازجي وبطرس البستاني.

تفككت الجمعية في العام 1852 بعد أن نافستها «الجمعية الأدبية» التي تأسست في طرابلس الشام في العام 1850. بعدها قامت «الجمعية العلمية» في العام 1866، ثم قام الأمير محمد أرسلان بإعادة تأسيس «الجمعية العلمية السورية» في العام 1868 بترخيص من والي الشام راشد بيك. وانضم إليها 150 عضوا حملوا جنسيات عربية مختلفة منهم اسبرشقير، إبراهيم ثابت، عبدالله صوصه (شوام)، سليمان وأحمد أباظة من مصر.

بعد هذا النجاح المحدود تشجعت النخبة وأخذت بتأسيس جمعيات موازية حملت أسماء مختلفة، مثل «زهرة الآداب» تأسست في بيروت في العام 1873، و «الجمعية التاريخية السورية» تأسست في دمشق في 1875، و «المقاصد الخيرية الإسلامية» في بيروت (1878).

كل هذه الجمعيات تشبه بعضها ولم تكن تتمتع برؤية سياسية وإنما كانت أقرب إلى الأندية الفكرية والأدبية والثقافية التي تطرح الآراء في إطار روابط وحلقات تفتقد إلى الوضوح والآليات. لذلك كانت سريعة العطب وبعضها لم يستمر إلا سنوات قليلة مثل: «الجمعية الأدبية» في طرابلس التي انحلت في العام 1876.

استمر الطابع الثقافي (الأدبي) يسيطر على الجمعيات إلى أن تأسست جمعية سياسية سرية سنة 1880 طالبت بوضوح باستقلال سورية ولبنان عن السلطنة العثمانية. وحين انكشف أمرها انحلت في العام 1883 لتفسح الطريق أمام نمو ظاهرة حلقة الشيخ طاهر الجزائري في دمشق.

تأسست حلقة الشيخ طاهر في العام 1882 وضمت عربا وأتراكا في صفوفها، واتصلت بجمعية «تركيا الفتاة» لتنبثق عنها لاحقا «حلقة دمشق الصغيرة» سنة 1903، ثم «جمعية النهضة العربية» التي تأسست في اسطنبول سنة 1906 وقادها عبدالكريم الخليل قبل أن يقع الانقلاب الدستوري الذي قامت به جمعية «الاتحاد والترقي» في تركيا في العام 1908.

حادث الانقلاب أدى إلى خلع السلطان العثماني عبدالحميد الثاني وتوليد متغيرات ثقافية ونفسية ساهمت في تنشيط الحياة الحزبية وتشجيع النخبة على الإسراع في تشكيل أندية وجمعيات سياسية كثيرة لم تنجح في معظمها في تطوير أدوات الفعل وتحويل الأفكار إلى برامج تتوافق مع طبيعة المرحلة وظروفها وخصائصها.

ظاهرة الحزب الحديث في المنطقة العربية وتحديدا في بلاد الشام كانت آنذاك ضعيفة وتفتقد إلى تلك المقومات التاريخية والقوى الاجتماعية القادرة على حمل أفكارها والدفاع عنها. فالظاهرة سطحية ولا جذور لها في الواقع وهي أقرب إلى التقليد ومحاكاة الغرب وتفتقر إلى الابتكار. وبعض جوانب تلك الظاهرة كان أشبه بردة فعل على تلك الصدمة السياسية التي أحدثها الاستعمار المباشر حين اجتاحت جيوشه الجزائر وتونس ومصر وشواطئ الخليج وعدن. كذلك كانت الظاهرة مجرد محاولة للرد على السلطان عبدالحميد حين اتخذ قرار تجميد العمل بالدستور العثماني.

هذا النوع من السلوك الانفعالي تحكم بقوة في مختلف نشاطات النخبة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فالنخبة كانت في وضع مضطرب وتسيطر عليها تلك الدهشة الناجمة عن ذاك الإعجاب بالنماذج الأوروبية من دون إدراك للأسباب العمرانية والمعرفية والتطورية التي تراكمت لتشكيل تلك القاعدة التاريخية لنهوض الغرب. فالتقليد والمحاكاة والإسراع في إنجاز التقدم شكلت هواجس قلق لدى النخبة فاتجهت إلى الاستنساخ الفوري لتجارب أوروبا، وكانت النتيجة ظهور حركات سياسية هي أقرب إلى منظومة «الملل والنحل» وأبعد من أن تكون ذاك الشبيه للحزب الليبرالي أو الاشتراكي الذي تأسس في لحظات تاريخية فرضتها حاجات السوق وجاء ليلبي وظائف معينة في الغرب.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1659 - الخميس 22 مارس 2007م الموافق 03 ربيع الاول 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً