أمامي كل الصحف المحلية الصادرة أمس (الأربعاء)، أربعٌ منها حملت مانشيتات غاضبة، مع افتتاحيتين غلب عليهما طابع الجزع، مقابل تغطيةٍ معقلنةٍٍ على الصفحة الأولى في صحيفتين أخريين، مع عشرات المقالات والتعليقات و... الكاريكاتيرات. هذا الحراك الإعلامي يجب ألاّ نضيق به أو يدفعنا للتشاؤم بل إلى الفخر، لأنه يعكس واقعنا البحريني بغناه الثقافي وتنوّعه الفكري.
الصحافة تعكس توجهاتٍ فكرية وتياراتٍ سياسية موجودة على الأرض وليست مستوردة من المريخ، وبالمثل النواب يمثّلون واقعا وقوى على الأرض مهما اختلف موقفنا منهم وتقييمنا لأدائهم. لذلك لم يكن غريبا ما شهدته جلسة الثلثاء من هجوم نيابي مضاد على هجوم الصحافة المتواصل منذ أسبوع.
هناك خطآن وقع فيهما الطرفان (النواب والصحافة): التعميم والتحامل، والنتيجة التعمية على الحقائق وإخراج الموضوع من أصله.
من البداية لنكن واضحين: الصحافة لن تسلّم للنواب بكل ما يريدون، ولن تكون صدى باهتا لأصواتهم، فهي لها دورٌ رقابيٌّ لا يقل تأثيرا عن دور النواب، وهو مسئوليةٌ وشرفٌ لن تتنازل عنهما حتى لو تعرّضت للتهديد والابتزاز.
ثانيا: الدعوات لفرض دورٍ رقابيٍّ مسبقٍ لوزارة الإعلام دعواتٌ قديمة، تخالف اتجاه العالم في هذا العصر المنفتح، وإذا حدث إشكالٌ فيجب وضعه في إطاره المحدّد: الجهة المنظمة لمهرجان ربيع الثقافة يجب أن تُسأل عن أيّ خطأ أو إشكال، وعليها أن تمتلك الشجاعة للاعتراف بالخطأ في حال وجوده مع الاستعداد لتصحيحه، مع افتراضي شخصيا بعدم وجود سوء نية.
ثالثا: يجب الاعتراف بأن المهرجان وقع في شَرَكِ «ثقافة الصورة»، فلولا وجود مصوّرٍ ما التقط وسرّب لقطات يعتبرها الذوق العام مسيئة، لما حدثت هذه الزوبعة. الصحافة الآن في هجومها المتواصل إنما تراهن على نسف إحدى مسلماتها الصحافية: الصورة أحيانا أكثر تأثيرا من مئة مقال. هذه الصور للعلم عُمّمت ونُشرت في المنتديات ووصلت على الايميلات الشخصية، قبل أن يتلقفها بعض النواب ويطالبوا بما رأوه حقا رقابيا لا ينازع من صلاحياتهم. وعندما زاد اللجاج طالبوا بعرضها على مجلس الوزراء، أو تقديم هذا «الفن الراقي» في التلفزيون ليستمتع به بقية الجمهور ويصدر حكمه النهائي.
وإذا كنّا كصحافةٍ نتهم النواب بالتشدّد والتعصّب ضد العمل دون أن يشاهدوه، فإنهم سيتهموننا بالتشدّد والتعصب للعمل بعد مشاهدته، على رغم أن بعض هذه اللقطات لم يكن ينقصها غير خلع الملابس لتكون صالحة لغلاف مجلة «بلاي بوي». ونخطئ في الصحافة إذا وضعنا أنفسنا في موضع الدفاع عن لقطاتٍ يستهجنها الذوق العام، بدعاوى فضفاضة لا يشتريها أحد من قبيل «الفن الراقي» و «الإبداع».
إذا... لنكن منصفين، التعصب يقابله تعصبٌ، والتشدّد بضاعةٌ موجودةٌ بالتساوي عند «الحداثيين» و «الإسلامويين». ونحن نعرف جيدا أنه لولا شذوذ هذه اللقطات لما حدث إجماع من كل الكتل البرلمانية على موقف واحد على رغم ما بينهم من تباينات وخلافات حتى النخاع.
أخيرا... إن ثورة النواب من أجل عرضٍ مسرحيٍ أمرٌ فيه الكثير من الجزع والمبالغة، فأمامهم مئةملفٍ أهم ينبغي الإجماع على حلّه، قبل أن يصل الدور إلى ملاحقة صور رجلٍ يتمدّد دون خجلٍ على امرأةٍ أمام مئات المشاهدين في قاعةٍ مغلقة، وهو ما لم يفعله مجنون ليلى «الحقيقي» في حياته قط، لأن مروءته وأخلاقه «القديمة» تأبى عليه ذلك! كما أن ثورة الصحافة فيها الكثير من المبالغة والجزع من سيطرة «المتشدّدين» وما قد تقود إليه من إلغاء الآخر وتهميشه، في بلدٍ يفخر بهذا الغنى والتنوع الثقافي والانفتاح. وإذا كان النواب استأثروا بالقرار فأساءوا الأثَرَة، فإننا في الصحافة جزعنا فأسأنا الجزع... (باستعارة تعبيرات سيد الأدباء في نهج البلاغة)... «ولله حكمٌ واقعٌ في الجازع والمستأثر».
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1658 - الأربعاء 21 مارس 2007م الموافق 02 ربيع الاول 1428هـ